هل يصلح التشيّع المذهبي للحيّز العام في العراق؟
عقيل عباس
انتشر مؤخراً تسجيل فيديوي لرجل دين شيعي عراقي معروف يتحدث فيه لجمهوره عن الاشتراطات الفقهية التي على أساسها يستطيع السيد المالك لعبدة أن يضاجعها حتى وإن كانت متزوجة من عبد يمتلكه هو أيضاً. في أثناء حديثه٬ كان الرجل يوجه كلامه إلى الجمهور الجالس أمامه بصيغة المخاطب ليقول “عندك عبدة وعندك عبد٬ العبدة زوجتها من العبد٬ اثنينهم الزوج والزوجة عبيد لك. هنا تستطيع أن تقول للعبد توقف عنها٬ لا تقربها…”.
كان لافتاً أن الرجل المعمم كان يناقش بجدية واهتمام وتفصيل موضوعاً ينتمي لتاريخ ارستقراطي في أزمنة بعيدة عن زمن الجمهور الذي يخاطبه. غياب الوعي بالحاضر كان واضحاً في نبرة الرجل واختياره للموضوع ليس فقط لأن القانون في البلد حرم العبودية ومنعَ وجود سادة وعبيد بالمعنى القانوني أو العرفي٬ بل أيضاً لأن هموم الجمهور المُخاطب٬ الفقير أو المحدود الدخل في أغلبه٬ لا تتعلق بامتلاك العبيد وكيفية تعامل السيد معهم٬ بل بهموم حديثة ترتبط بالفقر والبطالة وانقطاع الكهرباء وبؤس الخدمات والبيروقراطية المرهقة التي تعتاش على فساد يومي لموظفين صغار وكبار وسواها كثير. حتى باللغة الفقهية السائدة لا تُعتبر المواضيع التي أثارها الرجل من مسائل الابتلاء٬ بمعنى أن الفرد المؤمن في عراق اليوم لا يواجهها في حياته ولا يحتاج أن يعرف الحكم الفقهي للتعاطي معها.
لا يمثل تعامل الرجل مع مثل هذه المسائل البعيدة عن هموم العصر والمكان الحاليين استثناءً٬ فرجال دين آخرون شيعة يتناولون اموراً أخرى تقليدية شبيهة وتعود لزمن قديم وبعيدة عن الوقائع والمشاكل الحالية للمجتمع مثل أحكام نشر الدين بقوة السلاح وكيفية التعاطي مع “الكفار” بإزاء “أهل الكتاب” كدافعي جزية٬ وسواها من مسائل الفقه التقليدية التي ما عادت جزءاً من الحياة اليومية للمؤمن الشيعي. تقوم هذه المسائل وطريقة تناولها على مركزية العقيدة في فهم الأشخاص والمجتمعات وتصنيفها وكيفية التعاطي معها بوصفها أنواعاً مختلفة من “الآخر” الذي ينبغي الحذر منه أو تنظيم العلاقة معه على أسس تحفظ للذات هويتها النقية وتميزها المتفوق على هذا الآخر.
ينتمي هذا الخطاب الديني٬ بالإصرار المرتبط بتكراره في سياقات عامة مختلفة وبالارتياح وحس الطبيعية الذي يبدو على الذين يتناولونه ويروجون له٬ إلى هيمنة الماضوية على التشيع العراقي الذي يتضمن الحركات السياسية والمؤسسات الدينية الشيعية التي تظهر الماضوية في سلوكها وخطابها بمقادير مختلفة٬ لكن تبقى هذه المقادير تأسيسية وتعريفية في هوية هذه الحركات والمؤسسات. تشير الماضوية إلى زمن ماض قديم٬ لكنه صحيح معرفياً وأخلاقياً٬ فيه تأسست القيم الصحيحة وعاش فيه الآباء المؤسسون أو المروجون لهذه القيم والذين مثلوها في الحيز العام ودعوا الآخرين الى تمثلها في سلوكهم وخطابهم وقاتلوا أحياناً دفاعاً عنها حتى الموت. يصبح هذا الزمن ذهبياً أو مقدساً٬ من دون أن تشمل هذه القداسة كل ذلك الزمن وأشخاصه وأحداثه٬ وإنما فقط المرتبط بهذه القيم والدفاع عنها. في ما بعد٬ يتحول هذا الزمن المقدس٬ بأشخاصه وأحداثه وقيمه المنتقاة٬ إلى زمن تعريفي ومعياري تُقاس به كل الأزمنة التي تأتي بعده إذ تصبح كل هذه الأزمنة تابعة له وتفقد استقلاليتها وحقها بصناعة قيم أخرى مختلفة أو مناقضة لقيم الزمن المقدس، لينحصر دورها وأهميتها وقيمتها بقدرتها على تمثل قيم ذلك الزمن في وقائعها وأشخاصها وترتيباتها للحياة. كل الأزمنة السابقة أو اللاحقة للزمن المقدس هي أزمنة هامشية وعرضية بإزاء الزمن المركزي المقدس.
يبدأ الزمن المقدس الشيعي بعصر النبي محمد٬ بالفهم الشيعي التقليدي له٬ ليغطي زمن الأئمة الإثني عشر وينتهي بما يعرف بعصر الغيبة في العقد الثالث من القرن الرابع الهجري باختفاء الإمام الثاني عشر في سرداب في سامراء ليعود في آخر الزمان٬ بحسب العقيدة الشيعية. ولهذا مثلاً يغيب تقريباً في الخطاب والمعرفة الشيعية المذهبية والتقليدية الوعي بعصور التاريخ السابقة أو اللاحقة للزمن المقدس الشيعي٬ كما في الأزمنة السومرية والأكدية والأشورية أو العثمانية أو الملكية العراقية. كما تختفي هذه الأزمنة في خطاب الحركات السياسية والمؤسسات الدينية الشيعية إلا في المناسبات العابرة والاستشهادات السريعة التي تؤكد قيمة ما من قيم الزمن الشيعي المقدس أو مناقضة لها في إطار تأكيد مركزية هذه القيم وشدة العداء لها من الآخرين.
تمثلات الزمن الشيعي المقدس كثيرة في عراق ما بعد 2003، يجدها المتتبع في فهم الكثير من الشيعة العاديين لأنفسهم وللعالم الذي حولهم٬ كما في المعرفة التفصيلية والحسية بحوادث قبل 1400 عام والاستشهاد بها في محاولة فهم الحاضر وعيشه بغياب ولو معرفة عابرة بحوادث قبل 30 أو 40 عاماً متعلقة بقصة هذا البلد، وتتصل على نحو مباشر بما وصل إليه اليوم. في بعض الأحيان كان يصل الأمر الى محاولة إعادة عيش هذا الزمن المقدس. في إحدى المحافظات العراقية مثلاً٬ نُظمت محكمة رمزية٬ بقاض وادعاء ومتهم ودفاع٬ لتصدر حكماً على جريمة حصلت في أثناء الزمن المقدس٬ قبل 1300 عام. تتعلق الجريمة بقرار الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك قتل وصلب زيد بن علي٬ نجل الإمام الشيعي الرابع٬ زين العابدين بن الحسين. حضرت وسائل إعلام هذه المحاكمة ونقلتها للجمهور.
تقع مثل هذه الأفعال الماضوية ضمن حق المرء بحرية التعبير٬ التي تتضمن ممارسة معتقده الديني في الحيز العام ما دام لا يتجاوز على حريات الآخرين وحقوقهم في الحيز نفسه. مثل هذه الأفعال ليست مقلقة أو خطرة بل هي دالة على وعي معين يرتبط بأولوية الماضي على الحاضر في حياة المؤمن العادي. لكن المقلق والخطر هو عندما تصبح الماضوية سلوكاً وخطاباً للدولة والقائمين عليها. عندما وقف رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي في كانون الأول (ديسمبر) 2013 في محافظة كربلاء ليعلن من هناك أن الصراع الذي يدور في العراق حينها٬ خصوصاً على خلفية الاحتجاجات في المناطق الغربية٬ التي كثيراً ما يُشار إليها بوصفها “احتجاجات سنية”، هي في حقيقتها تمثلاً آخرَ للصراع الدائم بين الحسين ويزيد في عام 680 ميلادية٬ وأن أحفادهما اليوم يتصارعون في العراق في عام 2013! استعار المالكي حينها لحظة من الزمن المقدس الشيعي وفرضها٬ بحكم منصبه كرئيس للوزراء٬ على كل المجتمع في البلد كسبيل لفهم الذي يجري٬ حتى وإن كانت نتائج هذا الفهم وتطبيقاته كارثية على كل العراقيين.
رغم أن الماضوية حاضرة في سلوك مجاميع دينية أخرى كالسلفية٬ فإنها تصبح خطراً حقيقياً على السلم الأهلي في المجتمع عندما يتبناها صناع القرار الرسميون سواء على نحو معلن أو مضمر. هذه إحدى مشاكل العراق العميقة٬ إذ يمسك بالحكم ساسة من الإسلام السياسي الشيعي٬ يتمسكون على نحو غير معلن بالماضوية المذهبية الشيعية٬ فيما هم يديرون نظاماً سياسياً يقوم على الحداثة في عالم إقليمي ودولي تحركه المصالح المرتبطة بالمستقبل وليس الولاء لأزمنة مقدسة لا إمكانية لعيشها أو تمثلها في الحاضر.
النهار العربي