تغريدة مارك سافايا خطاب دبلوماسي أم إعلان وصاية؟

ناجي الغزي / كاتب وباحث سياسي

يبدو أن تغريدة المبعوث الأمريكي إلى العراق مارك سافايا، تعبّر عن رؤية مسبقة ومحمّلة بقناعات مغلوطة، تتقاطع بوضوح مع الواقع السياسي العراقي الراهن. فالرجل، المعروف بخلفيته التجارية واهتماماته الاستثمارية، ليس دبلوماسياً متمرّساً في الشأن العراقي، بل أقرب إلى شخصية اقتصادية تسعى لتعزيز الحضور الأمريكي في سوق العراق المفتوحة. ومع ذلك يحاول بعض الشركاء والخصوم السياسيين داخل العراق وخارجه، حشر الرجل في النفق السياسي المعقد، وتوريطه في ملفات تتجاوز طبيعة مهمته الأصلية، التي كان يفترض أن تقتصر على الجانب الاقتصادي والاستثماري.

إن هذا التوجّه يكشف عن خلل في فهم واشنطن للبيئة العراقية. فالعراق ليس مشروعاً استثمارياً، ولا ساحة لتجريب الأدوات الدبلوماسية، بل دولة مثقلة بالتحديات الأمنية والسياسية والاجتماعية. إدخال سافايا في معادلة الصراع السياسي العراقي يعني تكرار الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية مراراً منذ عام 2003، حين مزجت بين الاقتصاد والسياسة، وبين النفوذ والوصاية.

في المقابل، لا يبدو أن الظرف الإقليمي والدولي يسمح بمزيدٍ من العبث. المنطقة بأسرها تقف على حافة اشتعالٍ جديد، والعراق تحديداً لا يحتمل أن يكون ساحة تجاذب بين القوى الكبرى أو الإقليمية. ثم إن الولايات المتحدة نفسها تمرّ بأزمات داخلية خانقة، انقسام سياسي حاد، واضطرابات اجتماعية، وتحديات اقتصادية متصاعدة، وصراعات سياسية بين البيت الأبيض والكونغرس، إلى جانب ملفات خارجية ضاغطة تمتد من أمريكا الجنوبية إلى شرق آسيا.

إذا كانت واشنطن صادقة في دعمها المعلن لـ”استقلال العراق”، فعليها أن تُترجم ذلك في سلوكها الفعلي، بضغطها على حليفتها تركيا لوقف تدخلها العسكري والسياسي في شمال العراق، ومنعها من ممارسة سياسة الضغط المائي الخانقة عبر إقامة السدود التي قلّصت تدفق مياه دجلة والفرات، ما تسبب في موجات جفاف غير مسبوقة تهدد الحياة الزراعية والبيئية في بلاد الرافدين. ولأن واشنطن تمتلك نفوذاً واسعاً على أنقرة، فإن صمتها إزاء هذه الانتهاكات يكشف تناقض خطابها حول احترام سيادة العراق.

حين تتحدث واشنطن عن “استعادة السيادة”، فإنها لا تقصد استقلال القرار العراقي، بل انسجامه مع توجهاتها. هذا ما يجعل تصريح سافايا نموذجاً صريحاً للفهم الأمريكي الأحادي لمعنى السيادة سيادة مرهونة بالموافقة الأمريكية، ومشروطة بعدم الخروج عن إطار مصالحها في المنطقة.

السؤال الأهم هنا: كيف يمكن لمبعوثٍ أجنبي أن يتحدث عن سيادة بلدٍ آخر بينما وجوده ذاته هو تجسيد للتدخل الخارجي؟

فإذا كانت واشنطن صادقة في احترامها للعراق، فلماذا تُصرّ على إرسال مبعوثين خاصين لتحديد “الطريق الصحيح” الذي يجب أن يسير فيه العراقيون؟
الحقيقة أن هذا الخطاب ليس دعماً للعراق، بل محاولة لإعادة ضبط مساره السياسي ضمن سياق التنافس الإقليمي بين أمريكا وإيران، في وقتٍ تحاول فيه واشنطن ترميم نفوذها المتراجع في الشرق الأوسط بعد إخفاقاتها في أوكرانيا وتنامي الدور الصيني.

وإن الزجّ بمبعوثٍ مثل سافايا في لعبة التوازنات العراقية ليس في مصلحة واشنطن ولا بغداد. وإذا كانت الولايات المتحدة تريد فعلاً الحفاظ على علاقتها مع العراق، فعليها أن تفصل بين مهمات التنمية الاقتصادية وبين أجندات الضغط السياسي، وأن تتعامل مع بغداد كشريك سيادي، لا كملفٍ إداري ضمن وزارة الخارجية الأمريكية.

فالعراق اليوم يحتاج إلى استقرارٍ حقيقي، لا إلى رسائل مشوّشة تصدر من مبعوثين جُهّزوا بقناعات خاطئة. ولعلّ أول خطوة في هذا الاتجاه، أن يُدرك سافايا أن الاقتصاد لا يمكن أن يزدهر في ظل وصاية سياسية، وأن الاستثمار لا ينجح في بيئةٍ تُدار من الخارج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار