على حافة الدمار هل يستعد العالم لحرب عالمية ثالثة؟

بقلم/ د.محمد عبيد حمادي
في ظل التحولات الجيوسياسية التي يشهدها العالم اليوم تظهر تساؤلات متجددة حول احتمالية اندلاع حرب عالمية ثالثة ورغم التوترات المتصاعدة في عدة مناطق من العالم يبدو أن الأحداث الراهنة تكتسي طابعًا مختلفًا عن النزاعات العالمية التي عرفها التاريخ. خلال العقد الأخير أصبح الاقتصاد العالمي متشابكًا بشكل لم يسبق له مثيل مما جعل من أي تصعيد عسكري واسع النطاق محفوفًا بتداعيات اقتصادية كارثية قد تؤثر على الجميع دون استثناء مما يدفع صناع القرار إلى تبني سياسات حذرة تهدف إلى تجنب اندلاع مواجهات شاملة.
على مر العقود الماضية شهدنا صراعات متعددة نابعة من نزاعات إقليمية تداخلت فيها مصالح الدول الكبرى دون أن تتطور إلى حرب شاملة تجمع معظم أطراف العالم كما كان الحال في الحربين العالميتين السابقين. ففي أوكرانيا مثلاً يتصاعد الصراع بين أطراف محلية وإقليمية مع تدخل بعض القوى الخارجية لتحقيق مصالحها الاستراتيجية دون أن يتحول إلى مواجهة عالمية تتضمن تحالفات رسمية على مستوى القارات. وهذه الحقائق تشير إلى أن النزاعات الراهنة تظل محدودة الأبعاد مقارنة بتلك التي أدت إلى اندلاع الحروب العالمية السابقة.
تبرز المنافسة بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين كعامل محوري في رسم معالم المشهد الدولي الحالي، حيث تتصارع هذه الدول على فرض نفوذها في مناطق حيوية من العالم سواء عبر استراتيجيات اقتصادية أو عبر توظيف التكنولوجيا والحروب المعلوماتية إلى جانب القدرات العسكرية التقليدية. وفي هذا السياق يتجلى التحدي المزدوج المتمثل في الحفاظ على مصالح كل دولة مع تجنب الوقوع في فخ تصعيد النزاعات إلى مواجهات شاملة قد تهدد استقرار النظام الدولي الذي بُني على أسس التعاون والتداخل الاقتصادي والثقافي.
يتضح أن أحد أهم العوامل التي تحول دون اندلاع حرب عالمية ثالثة هو الترابط الاقتصادي العميق الذي يربط بين الدول في مختلف أنحاء العالم. فقد أدى هذا الترابط إلى خلق شبكة من الاعتماد المتبادل تجعل من أي تصعيد عسكري على نطاق واسع خيارًا محفوفًا بالمخاطر الاقتصادية التي قد تودي إلى خسائر جسيمة على الجميع. إضافة إلى ذلك فإن التطورات في مجال التكنولوجيا والحروب الإلكترونية أدت إلى ظهور أبعاد جديدة للصراعات لا تعتمد فقط على القوة العسكرية التقليدية، بل تتضمن أيضًا معارك في الفضاء السيبراني والمعلوماتي، مما يعيد تعريف مفهوم الحرب ويضيف طبقة من التعقيد تجعل من أي مواجهة شاملة خيارًا غير مرغوب فيه لدى معظم الأطراف.
على الصعيد الدبلوماسي، تلعب المؤسسات الدولية والأطر الإقليمية دورًا رئيسيًا في محاولة تهدئة الأوضاع ومنع تفجر النزاعات إلى مواجهات شاملة. فقد ساهمت الاتفاقيات والمعاهدات التي تم توقيعها في العقود الأخيرة في وضع آليات رقابية للتدخل السريع في حال حدوث اشتباكات تهدد استقرار المناطق المتأثرة. هذه الآليات لا تقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل تشمل أيضًا تبادل المعلومات وبناء الثقة بين الدول المعنية، مما يعكس رغبة جماعية في تجنب الانزلاق إلى دوامة من الصراعات التي كان لها تاريخ من الآثار المدمرة على حياة الشعوب واستقرار الأنظمة الاقتصادية.
ومن الناحية الاجتماعية والإنسانية، تتأثر الشعوب في المناطق المتنازع عليها بشكل مباشر بتداعيات النزاعات، سواء من خلال تأثيرها على الحياة اليومية أو من خلال ما تسببه من نزوح وهجرة قسرية تؤدي إلى تشرد أعداد كبيرة من المدنيين. وفي هذا السياق يبرز الدور الحيوي للمنظمات الإنسانية والمحلية في تقديم الدعم والمساعدة للمتضررين، مما يعكس الحاجة إلى تبني حلول سلمية تضع في الاعتبار الجوانب الإنسانية جنبًا إلى جنب مع الاعتبارات السياسية والأمنية. إن التحديات الكبيرة التي تواجهها هذه المجتمعات تفرض ضرورة تضافر الجهود الدولية والمحلية لتفادي تحول النزاعات إلى أزمات إنسانية واسعة النطاق يمكن أن تؤثر سلبًا على استقرار النظام الدولي ككل.
على الرغم من أن بعض المؤشرات قد تبدو وكأنها تمهد لاندلاع مواجهة عالمية جديدة إلا أن السيناريو الأكثر ترجيحًا لدى المحللين هو استمرار التوترات على شكل نزاعات إقليمية محلية مع بقاء آليات الحوار والتفاوض كخيار أول لتسوية الخلافات. إن الاستمرار في السعي نحو بناء علاقات ثقة وتطوير آليات عمل مشتركة بين الدول قد يساهم في تخفيف حدة التوترات ويحول دون تحول الصراعات إلى مواجهات عالمية شاملة. وفي الوقت الذي تتداخل فيه المصالح الاستراتيجية والسياسية بين القوى الكبرى، يبقى التعاون الدولي والالتزام بالمبادئ الدبلوماسية السبيل الأمثل للحفاظ على السلام وتفادي الوقوع في فخ الصراعات التي كانت سابقًا سببًا في معاناة البشرية.
وفي الختام يظهر أن الحديث عن حرب عالمية ثالثة يظل في الوقت الراهن ضمن نطاق التكهنات والتأملات التحليلية المبنية على بعض المؤشرات الظاهرة في السياسة الدولية، دون أن تتحقق الوقائع على أرض الواقع بما يتماشى مع تعريف الحروب العالمية السابقة. إن النظام الدولي المعاصر مبني على أسس متشابكة من الاعتماد الاقتصادي والتبادل الثقافي والتعاون التكنولوجي الذي يجعل من أي صراع شامل خيارًا مكلفًا للغاية لا يمكن لأي دولة تحمل مخاطره. يبقى الحوار السياسي والجهود الدبلوماسية المتواصلة الوسيلة الأنسب لمواجهة التحديات الراهنة وضمان مستقبل يسوده الاستقرار والازدهار على كافة الأصعدة. كما أن متابعة التطورات الدولية وتحليلها بعناية يظل ضرورة ملحة لفهم معالم المشهد العالمي واستباق أي تحولات قد تنذر بتغيرات جذرية في النظام الدولي.