شيعية وطنية ام وطنية شيعية – القسم الثاني

ابراهيم العبادي

لم يتفاعل مرجع ديني وفقيه ومفكر غير ايراني بذات الحماس والصدق والاندفاع مع الثورة الاسلامية وزعيمها الامام الخميني ، كما تفاعل السيد الشهيد محمد باقر الصدر (استشهد عام 1980).

فقد عد رحمه الله انتصار الثورة وسقوط نظام الشاه المسمى بيدق الغرب وشرطيه في الشرق الاوسط ، بمثابة فتح عظيم وحلم كبير يتحقق ، وكتب رحمه الله الى تلامذته الايرانيين يقول عن الامام الخميني : انه حقق حلم الانبياء ،وان على الجميع ان يذوبوا في الامام الخميني بقدر ماذاب هو في الاسلام ،واعلن بوضوح انه شخصيا مستعد لان يعمل وكيلا لقائد الثورة في اي قرية من قرى ايران .

كان لهذا التوجه اثره المضاعف على الحركيين الاسلاميين الشيعة عموما والعراقيين بالخصوص ،فها هو مشروع اقامة الدولة الاسلامية الذي ناضلوا من اجله وتحملوا العذابات والالام يرى النور على يد فقيه من الفقهاء الكبار ،وهاهي اللحظة الجماهيرية الحماسية التي انتظروها وتخيلوها تعبيء الملايين في ظرف قصير وبلا مراحل دعوية وتنظيمية ،وجعلتهم يهتفون للجمهورية الاسلامية لا الجمهورية (الديمقراطية) التي ترمز الى الفكر والنموذج الغربي ،كما ان نشوة النصر وموجة الامل الصاعد شملت الملايين من المسلمين لاسيما الشيعة منهم ،واطلقت حركة صحوة واحياء وتدين واسعة ، وخلقت لديهم صورة متخيلة عن واقع جديد تسود فيه افكار الحركات الاسلامية الداعية الى التفرد والاستقلال الفكري عن النموذجين الشرقي والغربي .

لم يكن ممكنا يومذاك لاي فصيل اسلامي ان تكون له كلمة او موقف يفهم منه التروي والتحفظ وقراءة الواقع بما يختلف مع الظاهرة الحماسية والانفعال الديني والاحلام الوردية التي صنعتها الثورة الاسلامية ، ناهيك ان يجد مرجعا أوقائدا في نفسه القدرة على ان يقف موقفا من تيار الثورة وهديرها المترع بالحماس ، ثم اي حركة اسلامية تستطيع ان تقف موقف (الشريك ) مهما بلغ بها الاعتداد الذاتي والاستقلال التنظيمي ، ولاتنجرف في تيار الحماس الثوري الاسلامي ،ان الفكرة المركزية الرائدة ،التي صارت ملهمة وملزمة للجميع ، هي عودة الاسلام بنسخته الشيعية حاكما على يد فقيه ومرجع اطبقت كارزميته وشخصيته على الافاق ،وان النظام الاسلامي الذي يقوده يستقر وينمو وينجح ،وماعلى الجميع سوى الانقياد والسمع والطاعة ،كما على الجميع ان يحذروا من ان تكون عناوينهم الذاتية (احزاب ،حركات ،جمعيات ،زعامات ،مرجعيات )مانعا من التفاعل الايجابي مع شعارات وسياسات ومواقف وتجارب الثورة وخطواتها ومعاركها وصراعاتها الداخلية والخارجية ،لقد صار الحفاظ على الوليد الاسلامي الشرعي وحمايته من الهجمات المضادة واجبا اسلاميا ملحا، بل من اوجب الواجبات ،ومن يتخلف عن ذلك فهو ليس من التيار الاسلامي بشيء ، بل هو متساقط وذو مآرب لايمكن قبولها ،بل صار التقرب من شخوص واجهزة النظام الاسلامي عاملا من عوامل التنافس بين الاسلاميين لتعزيز الشرعية ونيل الحظوة والدعم .

كما اسهم الموقف من الحرب التي شنها صدام على ايران والقمع الرهيب الذي جرى في العراق، في توحيد الرؤية والشعار والسياسة دونما تفكير في لحظة مابعد الحرب ،لحظة الانتماء الى بلدان ذات سيادة والى مشكلات الهوية الوطنية والاعتبارات والمصالح السياسية المترتبة عليها ، لهذه الاسباب وغيرها عاشت القوى الاسلامية الشيعية العراقية موقف الانسجام مع سياسات النظام الجديد والانقياد له ،انطلاقا من عاملين ،الاول ،فكري -فقهي ،والثاني ،سياسي -عملي ,فمن لايطيع السياسات والمواقف ويتقاطع معها، يخسر الكثير ،يخسرقاعدته الاجتماعية -الشعبية ، ويخسر الجدل الفقهي الذي تصاعد ، وبلغ حد قيام الناس بتغيير تقليدها الى مرجعية الامام الخميني وتتخلى عن تقليد مراجع الدين الاخرين (التقليديين ) ،وانطلق التثقيف والتبشير على اشده وفق هذه الرؤية .

احتاج الامر سنين طوال لتنكشف المرئيات والمسافات بين الواقع والمثال ، ولتبدأ بعدها الاسئلة الحرجة بالظهور ،الاسئلة المسكوت عنها التي اشرت اليها في القسم الاول من المقال .

للموضوعية ظلت اسئلة العراقيين حبيسة النقاش والجدل في الوسط الخاص والحلقات السرية ،،الاكثر جراة من العراقيين كان شخصيات دينية لبنانية شيعية ذات وزن مثل العلامة الشيخ محمد جواد مغنية (ت1979) والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد علي الامين ،اما دولة الجمهورية الاسلامية فقد واصلت معاركها وحروبها ومسيرة بنائها وتحديد خياراتها وقوانينها الدستورية ،ولم تلتفت الى ماكان يعيشه المسلمون الشيعة غير الايرانيين من اوهام وخيالات وافكار طوباوية وضغوط عملية وحساسيات ،فقد عملت اجهزة الجمهورية الاسلامية في تكريس نموذجها في الوسط الشيعي، وصارت تتعامل مع الاخرين من كيانات واحزاب وجماعات بعنوان المتولي الشرعي ومن لايستجيب فعليه ان يتدبر امره ،فهي التي بيدها الدعم والقوة الناعمة والقدرة على البناء والهدم والتثقيف والمراقبة ، وقد تطور هذا المسار مسار التعامل مع الاسلاميين من مستوى (قسم حركات التحرر) في الحرس الثوري الذي قاده المعدوم عام 1987 (مهدي الهاشمي) ، الى ان بلغ مابلغ في عهد مقر القدس على يد القائد قاسم سليماني.

في فترة نهاية الثمانينات (نظر )وكيل الخارجية ائنذاك الدكتور محمد جواد لاريجاني (المولود في كربلاء ) لمشروع كبير لحماية وخدمة الامن القومي الايراني بعد انتهاء الحرب مع نظام صدام ، وهو مشروع ام القرى الاسلامي ،حيث تمثل الجمهورية الاسلامية مركز القلب في المشروع الاسلامي المناظر لمركزية ام القرى (مكة المعظمة )في العالم الاسلامي ،وتدور العلاقة بين المركز والقوى الاسلامية ذات العلاقة ،كعلاقة مركز بالاطراف .

لم يتجرأ احد على طرح تساؤلات جادة عن طبيعة هذه العلاقة واثقالها ونتائجها على شعوب وجماعات واحزاب سياسية غير ايرانية ،كيف يمكن ترتيب هذه العلاقة؟هل هي ،تحالف .طاعة ،تنسيق ،التسليم للولاية العامة )، ؟ وماكلفتها واثارها ونتائجها ؟ يومها كتب العلامة الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين (ت 2001) متسائلا عن حدود ولاية الفقيه خارج كيان دولتها ،كيف للاخرين ان يسمعوا ويطيعوا ؟ماهي طبيعة العلاقة وجوهرها ؟ هل هو انقياد بمقتضيات الولاية العامة للفقيه الحاكم ،ام هي علاقة تحالف سياسي وتعاون ووحدة اهداف قد ينفك او يستمر باستمرار مقتضيات المصلحة ؟كان الامر بطبيعة الحال منطلقا من واقع لبنان حيث ساهمت الجمهورية الاسلامية في تاسيس ودعم حزب الله عام 1982 الذي قاد المقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي، وتحول مشروع المقاومة الى رمزية معيارية لاحقا ،فالتحالف مع الجمهورية والحصول على دعمها والانسجام مع سياساتها هو السبيل لمقاومة الاحتلالات والوقوف بوجه المشروع (الصهيوني الغربي ) وماعداه صار ينظر اليه بريبة ،واتهامه بانه خارج ضوابط المصلحة الاسلامية العامة ،حتى ان ذهاب وفد من المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق الى واشنطن نهاية تسعينات القرن المنصرم ، لم تكن ممكنة الا بمباركة وقبول من الولي الفقيه السيد علي الخامنئي ،وقتها كانت الجماعات العراقية الصغيرة التي تعارض نظام صدام تتشكل في احشاء الجنوب العراقي وتحصل على الدعم والمساندة من الاجهزة الايرانية وباشرافها عن طريق شخصيات وقيادات وتشكيلات عراقية تنسق مع تلك الاجهزة واحيانا بطريق مباشر .

في وقتها لم يكن ممكنا الحديث عن الاثار النفسية والسياسية والقانونية لهذا

صحيفة الصباح 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار