سلاح المقاومة بين وهم السيادة وحقيقة الردع: قراءة في الصراع على مستقبل لبنان والعراق

بقلم ناجي الغزي _ كاتب وباحث سياسي
في المشهدين العراقي واللبناني، ، يعود الجدل حول “السلاح خارج الدولة”، لكن هذه المرة في ظل سياقات داخلية مفككة وضغوط خارجية متشابكة. ترتفع الأصوات المطالِبة بحصر السلاح بيد الدولة، كأن ذلك هو مفتاح بناء السيادة، فيما تُشيطن المقاومة وتُقدَّم بوصفها عبئاً يعرقل استقرار النظام السياسي. لكن ما يُغفل عمداً هو أن هذا السلاح، في لحظات الفراغ والانهيار، كان هو ما أبقى الدولة قائمة، لا ما هدد وجودها.
إن هذا الجدل لا ينفصل عن صراع أعمق على مستقبل القرار الوطني: فهل تُبنى الدولة انطلاقاً من معادلة توازن حقيقي تضمن قدرتها على الردع، أم يُعاد إنتاجها ككيان هش تابع، لا يملك من أمره شيئاً؟ وهل نزع السلاح كمدخل للسيادة، أم خطوة نحو تجريد المجتمعات من وسائل الحماية والاستقلال؟
هذا المقال لا يسعى إلى تبرير الفوضى، ولا لتقديس السلاح كغاية، بل يسعى إلى تفكيك الخطاب الدعائي الذي يستخدم مفردات “السيادة” و”الدولة” لتبرير عملية استراتيجية خطرة: نزع سلاح المقاومة في بيئة ما زالت مهددة، وبدون توفير البديل السيادي الحقيقي.
السلاح ليس خارج الدولة.. بل خارج الهيمنة
الحديث المتكرر عن “السلاح خارج إطار الدولة” يبدو للوهلة الأولى مطلباً سيادياص، لكنه يخفي في طياته سؤالاً أعمق: أي دولة نقصد؟ هل هي دولة تمتلك قرارها الاستراتيجي فعلاً، أم دولة يُدار أمنها واقتصادها من غرف السفارات ومصالح الخارج؟
في لبنان، تُطرح هذه الدعوات وسط انهيار مؤسساتي وانعدام ثقة شعبي بالدولة. وفي العراق، تصاعدت المطالبات بتفكيك الحشد الشعبي تحت عناوين مهنية الجيش أو استعادة هيبة الدولة، بينما الفاعلون أنفسهم لم يتمكنوا يوماً من حماية البلاد من الاحتلال أو الإرهاب، بل تحركوا ضمن سقف الإرادة الأجنبية.
المشكلة لا تكمن في كون هذا السلاح “خارج إطار الدولة” كما يُشاع، بل في كونه خارج هيمنة القوى الغربية والإسرائيلية. فلو كان هذا السلاح يعمل في خدمة أجندات حليفة لواشنطن أو تل أبيب مثل سلاح الجولاني، لتمّ التغاضي عنه أو اعتباره جزءاً من “الردع الإقليمي”. لكن كونه موجّهاً لردع مشروع الهيمنة، فهذا وحده ما يجعله مستهدفاً.
لقد أثبتت تجارب العقود الماضية أن النظم الغربية لا تعارض وجود السلاح، بل تعارض فقط أن يكون سلاحاً وطنياً مستقلاً يملك قرار إطلاق النار دون الرجوع إلى “أذن دولية”.
العراق: من مقاومة داعش إلى مطالب نزع السلاح
في العراق، يواجه الحشد الشعبي حملة سياسية وإعلامية مستمرة منذ تحرير الموصل، وقد تسارعت الدعوات لحله أو دمجه أو نزع سلاحه. الحجج تتكرر: ضرورة حصر السلاح، تعزيز المؤسسة العسكرية، حماية العملية الديمقراطية.
لكن السؤال الأخطر هو: من الذي يضمن حماية الدولة إذا اختفى الحشد؟
ومن الذي يقف اليوم بوجه مشروع الانفصال، أو تهديدات الحدود السورية و وادي حوران وحواضنها الداخلية في المناطق الغربية، أو عودة الخلايا النائمة؟ هل يملكون بديلاً فعلياً؟ أم أن المطلوب فقط كسر إرادة المقاومة وإخضاع القرار الأمني العراقي بالكامل؟
لبنان: بين خريطة الطريق الأمريكية والقرار الوطني الغائب
أحدث التطورات جاءت من لبنان، حين أعلن رئيس الحكومة نواف سلام عن تكليف الجيش بوضع خطة لحصر السلاح بيد الدولة قبل نهاية العام الجاري، مع تحديد نهاية شهر آب/أغسطس موعداً لعرض آلية التنفيذ على مجلس الوزراء.
اللافت أن هذا القرار جاء بعد انسحاب وزيري الثنائي الشيعي من الجلسة، رفضاً لهذا البند، ما يؤشر إلى غياب التوافق الوطني حول ملف مصيري. لكن ما خفي كان أعظم، إذ كشفت مصادر دبلوماسية وإعلامية عن ضغط أمريكي مباشر عبر المبعوث توماس براك، الذي قدّم خارطة طريق مشروطة: نزع سلاح حزب الله بالكامل مقابل انسحاب جزئي إسرائيلي من جنوب لبنان، ووقف مؤقت للهجمات الإسرائيلية. هكذا، تتحول “السيادة” إلى ورقة تفاوض مشروطة بموافقة الاحتلال!
عقلنة المشروع أم تأجيل المواجهة؟
في خضم الجدل حول قانون الحـ،ـشد الشعبي، يكشف تصريح القيادي في الإطار التنسيقي عامر الفايز عن تحوّل مهم في المزاج السياسي داخل القوى الشيعية. فبينما كانت بعض أطراف الإطار تضغط لتمرير القانون بسرعة وفرض معادلة “كسر العظم”، تراجعت اليوم تحت وطأة الضغوط الدولية، وعدم جهوزية الساحة السياسية لتقبل مثل هذه الخطوة التصعيدية.
يشير الفايز إلى أن الكثير من النواب الشيعة ينسحبون من الجلسات حين يبدأ الإعداد لعرض مشروع القانون، ليس رفضاً للحشد كمؤسسة، بل رفضاً لطريقة فرض إرادة سياسية بدون توافق. ويضيف أن قنوات الاتصال مع الولايات المتحدة مفتوحة لإيجاد صيغة وسط تضمن الحفاظ على دور الحشد، دون إثارة ردود أفعال تقوض شرعية الحكومة أمام المجتمع الدولي.
نزع المقاومة لا السلاح
إن جوهر ما يجري في لبنان والعراق ليس إصلاحاً داخلياً، بل محاولة لسحق القوة الوحيدة التي لا تزال تقف في وجه المشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة. فالمطلوب ليس نزع السلاح، بل نزع الروح، وكسر الإرادة، وفتح الحدود أمام الاستباحة. إنهم لا يريدون دولة قوية، بل دولة ضعيفة بلا مقاومة. ولا يريدون جيشاً موحداً ومجهزاً باحدث الاسلحة المتطورة، بل قوات رمزية باسلحة خفيفة تُستخدم لردع الداخل لا الخارج. ولا يريدون وحدة وطنية، بل تفكيكاً ممنهجاً لكل روافع الردع الشعبي.
من يسلّم سلاحه يُذبح
كثيرون يظنون أن تسليم السلاح هو مفتاح السلام، لكن تجارب التاريخ الحديث تُكذب هذا الظن. في البوسنة، سلّم المسلمون سلاحهم تحت وعود أممية بالحماية، فكانت النتيجة مذابح سربرنيتسا. وفي غزة، حين توقفت المقاومة فترة طويلة، لم يتوقف العدوان الإسرائيلي، بل تكثف الحصار وتجدد القصف.
الحقيقة أن نزع السلاح لا يمنع المجازر، بل يفتح الباب لها. فالعدو لا يرحم من يُلقي سلاحه، بل يستغل لحظة ضعفه ليحسم المواجهة لصالحه. وتجريد المقاومة من سلاحها، سواء في لبنان أو العراق، لا يعني بناء الدولة، بل يعني تسليم القرار للهيمنة الخارجية.
في لحظة مفصلية كهذه، يجب أن يكون درس التاريخ حاضراً: من يُلقي سلاحه تحت وهم الواقعية يُذلّ، ومن يُمسك به بحكمة الردع يُحترم. العالم لا يعترف إلا بالأقوياء، ولا يصغي للضعفاء، ولا ينصت للذين يتوسلون العدالة، بل يُذعن فقط لأولئك الذين يملكون أوراق القوة. والسيادة لا تُنتزع عبر التفاهمات الدولية، بل تُصنع بثبات الشعوب على خطوط التماس.