العراق: أزمة مالية متفاقمة بين تراجع الإيرادات وتجاوزات الإنفاق

بقلم/ الدكتور إسماعيل الجنابي
يواجه الاقتصاد العراقي تحديات جمة، حيث حذر صندوق النقد الدولي من انكماشه بنسبة 1.5% هذا العام. هذا الواقع الاقتصادي المعقد ناتج عن عوامل متداخلة، أبرزها التذبذب الحاد في أسعار النفط وانخفاضها إلى مستويات تقل عن نقطة التعادل المالي الضرورية للعراق، والتي يقدرها الصندوق بنحو 92 دولارًا للبرميل، بينما تتداول عقود خام برنت حاليًا قرب 65 دولارًا. هذا التباين يضع العراق أمام أزمة مالية حقيقية تتجلى في اتساع العجز المالي وتراجع القدرة على تمويل المشاريع التنموية، مما دفع الحكومة إلى إجراءات مثيرة للجدل لسد فجوة استخدام الأمانات الضريبية:
تساؤلات حول الشرعية وتداعيات “سرقة القرن”
في خطوة أثارت قلق المختصين، أعلنت الحكومة العراقية عن تخويل وزيرة المالية بسحب ما يقارب ثلاثة مليارات دولار من الأمانات الضريبية لتغطية رواتب الموظفين، بمن فيهم منتسبو الحشد الشعبي ورواتب رفحاء. يرى مراقبون أن هذا الإجراء يعكس عمق الأزمة المالية، كون الأمانات الضريبية تمثل أموالًا مودعة من الشركات والمواطنين لأغراض ضريبية محددة، وليست إيرادات حكومية قابلة للتصرف العام.
يأتي هذا القرار بعد أقل من خمس سنوات على فضيحة “سرقة القرن”، التي شهدت اختلاس نحو 3.7 تريليون دينار عراقي (حوالي 2.5 مليار دولار) من الأمانات الضريبية، المتهم فيها رجل الأعمال نور زهير الذي فرّ خارج البلاد بعد إطلاق سراحه المثير للجدل. يرى محللون أن لجوء الحكومة الحالية إلى سحب الأمانات الضريبية، وإن تم بغطاء قانوني ظاهري، يثير شبح “سرقة القرن” مجددًا. فاستخدام هذه الأموال دون موافقة أصحابها الصريحة يمثل تجاوزًا قانونيًا وأخلاقيًا، خاصة في ظل معاناة العديد من الشركات من عدم استرداد أماناتها المتراكمة منذ سنوات، وهي مشكلة تفاقمت نتيجة لتقاعس سابق من وزارتي المالية والتخطيط عن إطلاق هذه الأموال في وقتها. ويُذكر أن عدد الموظفين في العراق يتجاوز 4.5 مليون موظف، ويحتاجون شهريًا إلى حوالي 7 تريليونات دينار للرواتب، وأن قرار السحب الحالي جاء جزئيًا نتيجة لتأخر تحويل أموال بيع النفط من قبل البنك الفدرالي الأميركي.
إدارة الإنفاق الحكومي تحت المجهر
تتركز الانتقادات الموجهة للحكومة بشكل كبير على إدارة الإنفاق العام، حيث تتهم أطراف بزيادة النفقات بدوافع “سياسية” مرتبطة بالانتخابات المقبلة، دون مراعاة دقيقة للقدرات المالية للبلاد. في المقابل، ترى أطراف أخرى مستفيدة أن الحكومة قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية وتتعرض لحملة تستهدفها قبيل الانتخابات المقررة في نوفمبر 2025.
يزيد من حدة الانتقادات استعداد حكومة السوداني لعقد قمة بغداد في منتصف مايو 2025 بتكلفة تقدر بأكثر من 250 مليون دولار، تشمل بنودًا مثل شراء سيارات فارهة واستئجار شركة لبنانية لتجهيز الطعام للضيوف. يعتبر هذا الإنفاق الباذخ، في ظل الأزمة المالية المعلنة، مثار سخرية واستياء واسع، خاصة في سياق نظام سياسي يواجه اتهامات بالفساد وسوء إدارة المال العام.
مؤشرات التعثر المالي وتحديات المستقبل
يبدو أن الحكومة العراقية بدأت بالفعل في البحث عن مصادر تمويل غير تقليدية لسد العجز المتزايد في ميزانيتها، وهو ما يشير إلى تعثر مالي حقيقي قد تتفاقم تداعياته مستقبلًا. ورغم جهود البنك المركزي والمصارف لتحويل الإيرادات الدولارية وتوفير الدينار، إلا أن هذه الإيرادات لا تكفي لتغطية حجم الإنفاق الحكومي الهائل.
يواجه العراق تحديات جسيمة في إدارة موارده المالية ومكافحة الفساد لاستعادة ثقة المواطنين والمجتمع الدولي وضمان الاستقرار الاقتصادي والسياسي. من المرجح أن يشهد الصيف المقبل تداعيات اقتصادية واجتماعية كبيرة على المواطن العراقي الذي عانى طويلًا من تبعات سوء الإدارة والفساد. يبقى المستقبل القريب محفوفًا بالمفاجآت، وسيكون لما ستؤول إليه الأوضاع المالية والاقتصادية عبرة للمراقبين. وللحديث بقية.