ماذا بعد مشروع مجاري الحلة الكبير؟

د. أحمد حبيب خبط العباسي|..
في الوقت الذي كان فيه العالم أجمع أسيرا للحروب و منشغلا بالبداوة و الزراعة ؛ كانت بابل و منذ تأسيسها الأول منارا للعلوم و الابتكارات التي أذهلت الأمم ، و صدرت لها الكتابة و القوانين و الحضارة .. بابل التي سبقت سقف البصيرة بأفكارها و تطلعاتها ، و وضعت أبجدية الإنسانية للبشرية جمعاء ؛ تلك الحاضرة التي لازال الأفق مليئا بأسرارها ، و علامة فاصلة عند عجائبها ؛ أمست اليوم وجعا مستداما في خاصرة الوطن ؛ لا تجد من يتبنى تاريخها ليسدل عليه بعض مجده و يحفظ لأرض السواد هيبتها .
أستغرب حقا عندما أتصفح تاريخ مدينة كبابل و أقارنه بما آلت اليه الحال ، و هي تطفو على خرابات لا بداية و لا نهاية لها ؛ لدرجة أن مواطنوها صاروا يحلمون بأبسط حقوقهم بدل أن يكونوا مثالا لحضارة بلاد قدمت للبشرية صورتها التي تعيشها اليوم..
بابل التي وضعت أسس علوم الرياضيات و المثلثات ؛ و اخترعت اول خلية كهربائية و نظمت أول مسلة للقوانين .. بابل التي كانت تمتلك أرقى أنظمة الصرف الصحي و الشوارع المعبدة و المزينة ؛ بابل التي نظمت نظريات للاقتصاد و الزراعة و التجارة ، و أسست خارطة للعلم و المعرفة ؛ كل هذا قبل آلاف السنين من الان .
أستغرب بوجع مفرط و أنا أتأمل ما مر عليها من حكومات متعاقبة لم تعرها و لو القليل من حقها في حياة كريمة تحفظ لوجه شعبها ماءهم الذي يحاول المقنعون و المزيفون ازالته بلا هوادة عبر الاساءة لأهلها و حرمانهم من أبسط حقوقهم المشروعة في أن يمتلكوا لمدينتهم رداء عزتها و مجدها و تاريخها ؛ الذي يقف عقبة أمام جهل الكثيرين ممن لا يعون أو يفقهون وزن هذه المحافظة ، و ما تملكه من رصيد علمي و معرفي ؛ و هي لاتزال نابضة و منجبة للعلماء و الشعراء و المفكرين و رجال الدين و شيوخ العشائر الفضلاء .
منذ التاريخ الحديث للدولة العراقية و كل ما أعقبه من إحتلالات تلبس بعضها بغطاء الدين ، و تقلد الاخر لباس الخلاص ؛ كان همها جميعا هو سلب العراق لإرثه الحضاري و الإساءة له عبر زعزعة المنظومات الفكرية و الاجتماعية للشعوب تارة ، و زرع الجهل في عقولهم تارة أخرى ؛ حتى وصلنا لما نحن عليه اليوم من إهمال و تردي جعل بابل في مؤخرة التحضر و لا تتوفر لأهلها أبسط مقومات العيش الكريم .
عندما يمر ذكر بابل على مسامع طلبة الجامعات في كل دول العالم يتبادر لرؤى خيالاتهم مدينة ذات شوارع معبدة و هيأة عمرانية تلبس على جدرانها موروث حاضرة بلاد سومر و بابل و ارض السواد
( ميزوبوتاميا ) ؛ يتخيلون مرورهم بها و هي تمتلك واجهة للعراق أجمع ، و يعيش أهلها مجد حضارتهم عبر توفر الخدمات و الأنظمة العلمية المتطورة ؛ إلا أن الواقع مرير و الحقيقة أشد مرارة .
كنا نأمل أن تنكشف عن بابل خراباتها بعد عام 2003 ، و يأتي الوقت الذي تجد فيه من يلتفت لها و لأهلها الذين ذاقوا أشد أنواع الألم و الخيبة ؛ لنجد أنفسنا أمام حكومات كان سقف طموحها هو الاستحواذ على السلطة و تحقيق المكاسب الشخصية و الفئوية لأنظمتها و كياناتها السياسية ؛ غير آبهين و لو بطرفة عين لما يجب أن تكون عليه هذه المدينة .
منذ عام 2019 و ماقبلها ، و مشروع مجاري الحلة الكبير يمر بصفقات فساد واحدة تلو الأخرى ؛ و بعد مرور اربع سنوات و نيف ها نحن اليوم فرحين بإعادة اطلاقه وفق رؤى رقابية ؛ آملين أن يكون فاتحة لغيره من المشاريع المتلكأة و المتأخرة عن أوانها.
ما لا يعلمه الكثيرون أو يتجاهلونه أن بابل تشكل مركزا و بوابة لكل محافظات الفرات الأوسط و الجنوب ؛ و بالتالي فأن هذا يجعل منها ممرا تجاريا و سياحيا حيويا للداخل و الخارج ؛ بالاضافة لامتلاكها رصيدا متينا من الموارد و الامكانات الاقتصادية و في العديد من المجالات ؛ انها تشكل حاضنة كبيرة للكثير من الموارد التي لازال الجميع يغض النظر عنها متعمدا ليكيل لها و لمواطنيها المزيد من الوجع .
بابل التي تحتوي على العديد من محطات توليد الكهرباء الغازية و الحرارية ؛ و هي تغذي العديد من محافظات العراق لكنها تفتقر لكهرباء مستقرة و بقطوعات كبيرة .. بابل التي يجري فيها نهر الفرات و يتفرع بشكل لا محدود ضمن اقضيتها و نواحيها ، و هي تعيش الجفاف و قلة المياه و كساد الزراعة و المحاصيل .. بابل التي تمر بها اغلب القوافل التجارية و السياحية لكن شوارعها متهالكة و لا تمتلك ابسط مقومات التحضر .. بابل التي تمتلك رصيدا أثريا هائلا لم يكتشف منه سوى القليل و اليسير إلا أنها مهملة و كسيرة .. بابل التي تعيش على مستنقعات نفطية حسب الاختبارات الاولية لعمليات الاستكشاف لكن يتم تجاهلها و اهمالها عمدا طيلة السنوات الماضية .. بابل ( كالجمل يحمل أسفارا ) و لا ينال نصيبا سوى الخيبة و الخراب و الألم .
لقد تحمل أهلنا في بابل كل هذا الاجحاف و الاذلال طيلة عقود ، و حان الوقت لينالوا أبسط حقوقهم في أن يكون لهم ما يستحقونه ؛ و أن يكون لهم تمثيل برلماني و وزاري عادل ضمن الجهتين التشريعية و التنفيذية على حد سواء ؛ و هذا يتطلب من ممثليها في البرلمان أن يضعوا مصالحهم الفئوية و الشخصية و السياسية على جنب ليثبتوا جدارتهم في تمثيل أهلها الأكارم ، و أن يكون لبابل تمثيل وزاري أسوة بباقي المحافظات ؛ فالرحم البابلي زاخر بالعطاء العلمي ، و يمتلك رصيدا هائلا من الطاقات و الخبرات التي يجب أن تنال استحقاقها العادل ضمن الاطار و التمثيل على كافة الاصعدة.
كما يجب أن تأخذ حكومة السوداني في اعتباراتها اعادة توجيه البوصلة نحو المسار البابلي لرسم خيارات هذه المدينة مستقبلا ؛ و هذا يتوقف على جدية الحكومة فيما تزعمه من برنامجها الحكومي العادل و الاصلاحي ؛ فإذا كانت فعلا كما تزعم فهي مضطرة أن تتوجه بكل ثقلها نحو إعمار بابل و اعطائها استحقاقها العادل لتكون واجهة حقيقية للعراق أجمع .