الإنسانية لا يفهمها إلا إنسان
د. لؤي الخطيب |..
تسنُم حمزة يوسف زعامة الحزب القومي الاسكتلندي ومنصب الوزير الأول في اسكتلاندا (بصفة رئيس وزراء اسكتلندا) خبر هام جداً لمعرفتي بطبيعة الشعب الاسكتلندي الذي عشت في أحضانه بين العامين ١٩٧٥-١٩٧٦. لقد مر هذا الخبر مرور الكرام دون نقاش في أوساط المجتماعات العربية والمجتمع العراقي على وجه التحديد والذي تعمل قياداته بعد مرور ٢٠ سنة من تغيير النظام في ٢٠٠٣ على تحقيق الديمقراطية، ليكون أفضل خطاب الطبقة السياسية العراقية هو تقسيم الشعب الواحد بفتنة ما يُعرف بـ عراقيي الداخل والخارج، إشارة انتقاص للمهاجرين والمهجرين العائدين إلى العراق، ضاربين بعرض الحائط حيثيات المآسي التي حلت في العراق من هجرات وتهجير قسري منذ انهيار العهد الملكي في ١٩٥٨ وحتى ٢٠١٨ بعد عودة المُهجّرين من أحداث داعش، حتى باتت مناصب الدولة الاتحادية عُرضة للمحاصصة المناطقية التي زادت الطين بلّة فوق المحاصصة العرقية والدينية والحزبية التي نهشت في كيان الدولة.
في حين انهمك المجتمع العراقي بانتقاد عمل درامي يُبث في شهر رمضان بعنوان “دفعة لندن” يُصوّر طالبة عراقية تعمل خادمة عند طالبات عرب، ليتحول موضوع المسلسل إلى رأي عام يتجاوز كل أولويات الشعب العراقي وهمومه.
في ظل التطورات السياسية التي حدثت في المملكة المتحدة منذ نصف قرن ووصولاً إلى هذه اللحظة في بناء وتطوير الدولة، تكمن أهمية فحوى الرسالة الضمنية التي تبعثها المملكة المتحدة (بلداً وشعباً) إلى العالم الثالث عموماً، وإلى العراق تحديداً، في أهمية احترام الهوية الإنسانية وحقوق الإنسان وفهم معنى الحرية بمسؤولية كمضامين أساسية لتحقيق النظام الديمقراطي الناجز، في وقت تحاول شعوبنا فهم الإجابات الأولية على كيفية اعتماد النظام الديمقراطي وفهم مضامينه لكن على نحو سطحي مخيف.
إذا ما أخذنا مثال رشي سوناك (رئيس وزراء المملكة المتحدة) وحمزة يوسف (رئيس وزراء اسكتلاندا في المملكة المتحدة) وتأملنا لوهلة من باب المقاربة والمقارنة ماذا سيكون حال الخطاب السياسي والاجتماعي المحلي لو أن فرداً عراقياً بالولادة من أسرة مهاجرة (من والدين غير عراقيين) من الهند أو المغرب على سبيل المثال حاول تطوير ذاته وكفاءته لتسنم أرفع موقع تنفيذي في الدولة، في العاصمة بغداد أو إقليم كردستان العراق، هل كان سيُسمح لهذا الفرد بالمضي في مسيرته دون تعثّر وقبل تناوله من الإعلام المحلي والحلقات الاجتماعية والدوائر السياسية بالتسقيط والاستحقار والاستخفاف؟!
بالطبع سيكون محل ذلك الهجوم الذي هو كنه الموروث المجتمعي والأخلاقي لشعوب جغرافيتنا التي تؤمن بالفئوية أكثر من الذات الإلهية وإبداعه في خلق الإنسان، والدليل هو طبيعة الخطاب الفئوي البائس الذي تتبناه الشريحة القيادية في العراق والذي يتجاوز خطاب المكوناتية داخل المكوّن الاجتماعي الواحد فضلاً عن أجنحته وانتماءاته، عرقياً ودينياً وعشائرياً وجغرافيا. وما خطاب ودعاية بعض الشخصيات المتصدية للرئاسات في تسنم المناصب العليا ببعيدة عن هذا الفهم في تبني الفئوية، دون الخوض في حيثياتها، فاللغة معروفة ومكشوفة، لأن النوايا مفضوحة.
ما أود بيانه هو أن مفاهيم الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان، مفاهيم سامية وإنسانية تحتاج إلى طبقة سياسية واعية ومجتمع واع وإعلام حِرَفي مهني حر ومسؤول بوعي قل نظيره، وإنساني بالدرجة الأولى، لكي تتحقق أهداف المواطنة الحقيقية وهويتها التي ما زلنا نفتقدها منذ تأسيس الدولة الحديثة عام ١٩٢١، وبخلافه، ستبقى شعوبنا تراوح مكانها في براثن الجهل وبلداننا في تراجع مستمر، ومستقبلنا مرتهنن بخرافات الماضي واكاذيب التأريخ التي نسميها كذباً وزوراً: ثقافات وحضارات إنسانية.
المكان بالمكين، مقولة صحيحة، ولولا البيئة الأخلاقية التي تراعي أولويات الإنسانية لما تمكن أمثال آرا درزي العراقي ومجدي يعقوب المصري وصدّيق خان الباكستاني ومئات بل آلاف المواطنين البريطانيين من أصول أجنبية أن تُمنح أرفع الأوسمة وتتسنم أعلى المواقع الحكومية في المملكة المتحدة.
بريطانيا العظمى، ليس عظمى بترسانتها النووية وإمكانياتها المالية والتكنولوجية المتقدمة، بل بفهمها لمعنى الإنسانية في تحقيق مفهوم المواطنة والعدالة الاجتماعية بين شعوبها وتحقيق حقوق الإنسان لمواطنيها، مهما كانت خلفيتهم العرقية أو الدينية أو الفكرية.
أكتب هذه المقالة بعجالة من مستشفى في المملكة المتحدة، إذ خضعت لعملية القلب المفتوح مؤخراً، أعزوا نجاحها لرحمة الله التي أودعها بالفريق الطبي عِلماً وأخلاقاً وإنسانية، والذي لمَّ جمهرة من المختصين والممرضين من مختلف المشارب والخلفيات الثقافية والعرقية والدينية، جمعتهم مهنيتهم ووطنيتهم لبلدهم المملكة المتحدة وقبل كل شيء إنسانيتهم واحترامهم للذات الإنسانية.