وادي حوران: القنبلة الموقوتة في وجه العراق

بقلم/ ناجي الغزي – كاتب وباحث سياسي
في قلب صحراء الأنبار الغربية، ينام وادي حوران كأفعى رملية ضخمة، ملتفّة في صمت حذر. إنه أطول وادٍ في العراق، يمتد لمسافة تقارب 350 كيلومتراً، يبدأ من الحدود السعودية مروراً بعمق الصحراء الغربية، حتى يلتقي بنهر الفرات قرب مدينة حديثة. ومنذ سنوات واسم وادي حوران يعود ويتكرّر في سجلات الأمن والذاكرة الوطنية: احتلّته فترات طويلة جماعات متطرفة، من القاعدة وداعش واخواتها، ولا يزال يحتفظ بوظيفة لوجستية وملاذية لا يستهان بها. اليوم، وفي سياق النقاش السياسي الداخلي حول مستقبل الحشد الشعبي ونزع سلاحه أو دمجه، يتحوّل وادي حوران إلى اختبار عمليّ لمدى صدق من يدّعون أنهم قادرون على حماية الدولة حال اختفاء هذه القوة العقائدية – العسكرية.
الادعاءات المتداولة (ومدى صدقيتها)
تنتشر روايات قوية مفادها أن هناك «مدينة» محصنة داخل الوادي، تحتوي على آلاف من المقاتلين أو عناصر أرهابية نائمة، وقواعد سرية، ومنظومات تشويش تحجب (GPS) ، وغطاء جوي تحت رعاية أمريكية أو تحالفية، تمنع الطيران العراقي من التحرك بحرية. بعض هذه الادعاءات لها أساس من الواقع (وجود عوائق جيوبوليتيكية وحضور أجنبي سابق في قواعد بالأنبار)، لكن الادعاءات المتطرفة في الأرقام والتفاصيل (مثل وجود 10,000 مقاتل حاضرون بصورة دائمة، أو إنزال مستمرّ للمؤن من قبل مروحيات أمريكية لداعش داخل العراق) تحتاج إلى أدلة مفتوحة قابلة للتحقق (صور، أو تسجيلات طيران، أو بيانات استخباراتية منشورة أو توثيق OSINT). حتى الآن المصادر العلنية تُجمع على وجود مشاكل ومخاطر وكذلك تدخلات جوية ضد معاقل داعش داخل العراق وسوريا، لكن لا تتبنّى بياناً واحداً يؤكّد كل الادعاءات بنفس الدقّة)
لغز الحظر الأمريكي
الأراضي الحدودية الوعرة دائماً ما تصبح ورقة تفاوضية: من يملك القدرة على الوصول والسيطرة الجوّية أو الاستخبارية على مثل هذه الجيوب يمكنه أن يحقق مكاسب أمنية: فمنذ سنوات، تحافظ الولايات المتحدة على موقف صارم، من وضع يدها على “وادي حوران” وذلك من أجل تقيّد قدرة الدولة المركزية على ممارسة سيادتها الفعلية، وتحتفظ بأدوات ضغط سياسية. والتلويح بإمكانية تسليح وتحريك مجموعات أرهابية، أو السماح بمرورها، كما تريد أن تفرض «قواعد لعب» إقليمية تخدم مصالحها في صراعات أكبر، في الحدود، وخطوط الإمداد، ومنافسة النفوذ.
فلذلك عمدت أمريكا أن لا قوات عراقية تدخل عمق الوادي، ولا تسمح للطيران العسكري أن يحلّق فوقه إلا بإذن أمريكي، وأي محاولة عسكرية عراقية للاقتراب تُواجَه بغارات أو تحذيرات. وفي محاولة أمنية عسكرية على معاقل تنظيم القاعدة في وادي حوران في 21 ديسمبر 2013 قام بها اللواء الركن محمد الكرَّاوي، قائد الفرقة السابعة في الجيش العراقي، تم استهداف الحملة، مما أدى إلى مقتله رفقة مساعده وعدد من الضباط والجنود.
كما تسري قناعة بين العسكريين والسكان المحليين العراقيين أن الوادي أصبح منطقة عمليات خاصة أمريكية، وأنه يُستخدم كمستودع أو ممر استراتيجي أو حتى كمخيمات لعناصر مسلحة يتم نقلها وإمدادها جواً. هناك شهادات من جنود وقادة عراقيين يتحدثون عن طائرات “شينوك” تهبط ليلاً، تحمل أسلحة وعتاداً وأحياناً أشخاصاً، تنطلق من قاعدة عين الأسد أو من مواقع أمريكية في الأردن.
وإذا صحّت رواية وجود حماية أو موافقات لعمليات معينة ضمن الوادي، فإن ذلك يضع العراق أمام معضلة: هل تُستبدل قوة عقائدية مسلّحة (كالحشد) بصيغة أمنية دولية لا تخضع لرقابة وطنية (كالقوات الامريكية)؟ وإذا جرى ذلك، من سيقوم بالمهمات الصعبة: منع عودة خلايا داعش، وحماية الحدود، وتأمين خطوط الإمداد؟ هناك مصادر عامة توضح أن وجود قواعد أمريكية مثل عين الأسد وتنسيق مكافحة داعش مستمرّان، لكن هذه تبدو شكلية، لا تعادل بالضرورة سيطرة القوات الامريكية على وادي حوران بالمعنى الذي تروّج له بعض الروايات؛ مع ذلك تظلّ خريطة الوجود الأجنبي عاملاً حقيقياً ومقلقاً يجب مناقشته شفهياً بصوت عالي وسياسياً على الطاولة.
ماذا عن الحشد الشعبي؟
الحشد الشعبي أثبت فعلياً خلال السنوات الماضية قدرته على تحرير مساحات وحماية مجتمعات محلية. المطالب الدستورية والقانونية بتنظيم وضعه أو دمجه لا تعني بالضرورة نزع فاعلية منظومة أمنية عن البلاد دون بديل واضح. السؤال العملي: من يحمي البلاد إذا انحلّت أو أُضعفت هذه القوة؟ من سيطرد خلايا نائمة مسلحة من مغارة أو وكرٍ دهري في وادي حوران؟ الإجابة لا تكفيها الشعارات: تحتاج إلى خطة بديلة قابلة للتطبيق، وموارد جوية واستخباراتية ومشتركة، وإرادة سياسية وطنية تدعم تحركاً أمنياً بلا تبعيات أجنبية تعيق التنفيذ.
هناك سؤالٌ للقرارين العراقي والأمريكي: إذا كانت هناك جهات داخل أو خارج العراق ترى أن تفكيك أو إضعاف الحشد الشعبي يخدم استراتيجياتها السياسية، فليتنافسوا الآن على إثبات أنهم قادرون عملياً على تعويض دوره-أمنياً دون تهاون، وعلى تقديم ضمانات يُعتمد عليها أمام البرلمان والشعب: خطة أمنية وميزانية وقدرات جوية واستخباراتية وبرنامج دمج وطني. وإلا فالمسألة ليست قانوناً أو تنظيماً فقط، بل مسألة أمن دولة لا يمكن تعريضها للتجارب أو للرهانات الإقليمية.