غزة.. الوجه الآخر

بقلم الدكتور طارق الهاشمي |..

صولة طوفان الأقصى في 7 اكتوبر وما تلاها من عدوان على غزة، أشغلت ولا زالت العالم كله في الداخل والخارج، والذي بات مأخوذا بحرفية المقاوم الغزاوي وبسالته وإنسانيته من جهة، ومصدوماً، متألماً، غاضباً على جيش أكد بفعله أنه، رغم بروباغندا تحسين السمعة المغرضة، ليس أكثر من جزار فاشل لم يقتن لا فن الحرب ولا إدارتها، بل تحول بساديته المفرطة إلى ثور مجنون أخذته المباغتة وصدمته الاهانة التي لحقت به ذلك اليوم، فقد السيطرة وبات يخبط خبط عشواء يعوض فشله وخسائره بالقصاص والانتقام الجماعي من أهل غزة مستهدفاً الأطفال والنساء بالمقام الاول اضافة للشيوخ والعجزة والمرضى … باختصار لقد ارتكب الكيان الصهيوني ابادة جماعية في غزة، حصادها حتى الان ما يزيد على واحد وعشرين الف شهيد وعشرات الالوف من الجرحى والمصابين اغلبهم أطفال ونساء … وبعد ثمانين يوماً من الحرب، بان الغرض الخبيث للعدوان، ويتلخص بتحويل القطاع إلى مكان ليس فقط غير آمن بل غير قابل للحياة او العيش أملاً في اجبار ما يزيد على 2 مليون إنسان على النزوح والهجرة قسراً إلى دول الجوار …. لكن المخطط المشؤوم يصطدم، قبل أي شيئ آخر، بجدار صلب غير قابل للاختراق، مواصفاته، الصبر والاحتمال والثبات ….هي باختصار التعبير الدقيق لسلوك شعبنا المحاصر والمعتدى عليه في غزة، وكلما زاد الالم، سما الغزاوي بصموده وتمسكه بأرضه ودفاعه عن قضيته.

ومع هذا السمت الراقي في التعامل مع العدوان، هناك وجه آخر، لا يقل عظمة ولا أهمية ويعني بسلوك وتعامل الغزاوي مع نفسه وأخيه، في علاقته مع عائلته وجيرانه، مع المجتمع او مع السلطة، واجهزتها ومرافقها وخدماتها ….مع القانون والنظام، حيث تبرز للراصد قيم هذا الشعب، تربيته وأخلاقه التي ظهر سموها ورقيها في زمن شدة لم نشهد لها مثيلا …. رغم الالم وعظم المصاب والفجيعة، هل سمعتم غير (حسبنا الله ونعم الوكيل؟ ) ….هل سمعتم تذمرا او شكوى، هل رأيتم خرقاً للقانون والنظام ؟…..  وكما هو معروف، يعيش هذا الشعب حرماناً من أبسط مقومات الحياة. محاصراً سبعة عشر عاماً ثم تضاعفت معاناته بعد ٧ أكتوبر، اذ أحيط بهم محاصرين براً وبحراً وجواً، فلا يكاد يجد الواحد منهم في اليوم ما يسد رمقه او يبل ريقه، يناشد من حوله من عرب ومن عجم قارورة ماء فتمنع عنه، طفلهم محروم من مذقة لبن، والعائلة من رغيف الخبز، مرضاهم وجرحاهم من حبة الدواء والمشافي المؤهلة، بل ضاقت حتى الارض في دفن الشهداء والموتى …وتردى نمط الحياة، وبلغت القلوب الحناجر … حالهم حال الاضطرار والضرورة التي يباح فيها اكل الميتة، حالة الضرورة إن سرق الشخص لا يقام عليه حد لشبهة الحاجة الملجئة، ظواهر معتاد ان تصاحب الناس في أوقات الفتن او الشدة البالغة والمصاب الكبير، حتى تتردى القيم وتهتز الثوابت، وتطغى الأنا … وينشط ضعاف النفوس – ولا يخلو منهم مجتمع – في العدوان والتجاوز على مافي أيدي غيرهم، يغريهم كون الأجهزة الشرطية معطلة والناس مشغولة بالنجاة من العدوان الذي لم يترك بقعة ولو صغيرة في غزة الصابرة …آمنة …  لكن المفارقة اللافتة للنظر، وقد عبّر عنها معنيون بعلم الاجتماع، ان السمت الذي عرف به الغزيون ايام السلام لم يتغير ايام الحرب !! اذ من غير المعقول او المتوقع رغم شدة الحرب على غزة ومحدودية مساحتها ومواردها وكثافة المقيمين على ارضها وتراكم آثار الحصار عليها ….رغم كل ذلك ان لا تقع حادثة سرقة واحدة !! ان لا ينهب محل واحد وتكسر الأقفال وتستباح املاك الناس والمتاجر ولا تهاجم الشركات ولا بيوت الاغنياء الميسورين..هذا غير معقول ! بل المتوقع في مثل هذه الاحوال ان ينشغل رجل الشرطة صباح مساء بملاحقة الجرائم والمجرمين ….لكن الذي حصل هو العكس تماماً فالناس هناك متعاونون متكافلون يشد بعضهم أزر بعض، ويؤثر بعضهم بعضاً ليصدق عليهم وصف النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول:

 

« ان الاشعريين (أهل اليمن) إذا أرملوا في الغزو، او قلّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم «وهكذا تجد أهل غزة صابرين إذا حلّ البلاء بهم، لا الصعب عندهم صعبٌ ولا المحال محال…يتقاسمون القليل المتاح، حامدين شاكرين ….ظاهرة ادهشت الغرب بل العالم أجمع وهم يجهلون السر في ذلك، وفي الذاكرة الفلتان الامني في اللحظة التي تسود فيها العتمة، حيث ينطلق الأفراد والجماعات والعصابات في تسونامي رهيب سلباً وسرقة واغتصاباً وتسوية حسابات ….قتلاً وخطفاً، لمجرد انقطاع الكهرباء لدقائق معدودة في مدن وعواصم كبرى كما حصل في نيويورك سنة ١٩٧٧م لتقبض الشرطة على ٣٧٠٠ شخص حيث قدرت الخسائر بحوالي مليار دولار !

ملاحظة اخرى، الكل يعلم المقاربة التي اعتمدها الكيان الصهيوني في تحقيق هدف الحرب (القضاء على حماس) …ان جيشه أجبن من ان يقارع المقاومة الباسلة وجهاً لوجه، المقاومة التي نذرت نفسها لله، وخيارها بين النصر والشهادة، بينما نذر جيش الاحتلال نفسه للشيطان، لهذا توجه العدو إلى الطبقة الهشة او الرخوة ليحيل حياتها إلى جحيم لا يطاق املاً في ان ينقلب الغزاوي على الحمساوي وتدور رحى حرب اهلية ينشغل بها الغزيون بعضهم ببعض، ويجري تفكيك اواصر الجبهة الداخلية، تنكسر بها شوكة المقاومة وتضعف، باشغالها بالداخل بدل الانصراف للرد على العدوان الصهيوني، وهذا سيكون كفيلاً بتحقيق هدف الحرب بأقل الخسائر … لكن ذلك لم يحصل أيضاً وصمد الناس وتحملوا العبء الأكبر من الاذى وبقيت الجبهة الداخلية متماسكة وانصرف المقاوم للتفنن في ملاحقة الغزاة، مطمئناً إلى ظهره، محمياً بحاضنته الشعبية مطمئناً لها ….. وهكذا أجهض الغزيون بصبرهم وثباتهم المساعي الخبيثة لدولة الاحتلال، وتعذر على جيشها تحقيق هدف الحرب.

وثمة أمر آخر في أسطورة الشعب الغزاوي أن امراة من الاسرى الرهائن لدىٰ كتائب القسام، والقصف اشتد قريباً منها، تقول للحارس القسامي وهي ترتعد:أخشى ان أموت. فأجابها: لا يا خالة لا تخافي نحن بنموت قبل لا تموتوا. فقارن هذا الموقف الإنساني الرفيع مع ما يحصل للاسرى الفلسطينيين أو الفلسطينيات على أيدي الصهاينة المحتلين.

 

ملكنا فكان العفو منا سجيةً

ولما ملكتم سال بالدم أبطحُ

وحللتمُ قتل الاسارى وطالما

كنا عن الاسرى نمنّ ونصفحَ

فحسبكمُ هذا التفاوت بيننا

وكل اناء بالذي فيه ينضحُ

 

شعب، يثير العجب والإعجاب، كأنه صنعه الله على عينه، هو لا ينكسر، بل ينتصر او يموت … لا نزكي على الله أحدا، لكنها الحقيقة بدون رتوش، بقي أن نسأل عن السر وراء هذا السمت العالي … لا تعجبوا إنه «الإسلام …» أيها السادة.

نقلا عن موقع الشرق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار