الشرق الأوسط بين الطائرات الأميركية وطبول الحرب

ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي
تشهد الساحة الدولية اليوم منعطفاً تاريخياً غير مسبوق، حيث تتقاطع أزمات الشرق الأوسط مع اشتداد الحرب في أوكرانيا، وصعود الصين كلاعب دولي عازم على كسر الهيمنة الأمريكية. هذا المشهد المعقد والمتداخل يفرض قراءة استراتيجية معمقة، خاصة مع التحركات العسكرية الأمريكية الأخيرة التي تكشف عن إعادة تموضع شامل لقواتها في المنطقة. فقد رُصدت عشرات الطائرات الأميركية للتزود بالوقود وهي تنتقل من بريطانيا والمحيط الأطلسي وأوروبا باتجاه قاعدة “العديد” في قطر وقواعد أخرى في الشرق الأوسط، في مشهد لا يمكن فهمه إلا باعتباره تحضيراً لعمل عسكري كبير أو رسالة ردع مباشرة لإيران، التي بات برنامجها النووي يقف على عتبة التحول إلى قدرة عسكرية كاملة.
واشنطن على جبهتين
ما يجري اليوم يعيد إلى الأذهان المعضلة الأميركية التي واجهتها الإمبراطوريات الكبرى عبر التاريخ: كيف تخوض حرباً على جبهتين في وقت واحد؟
في الشرق الأوسط، خطر مواجهة مباشرة مع إيران وحلفائها، بما يفتح أبواب صراع إقليمي شامل. وفي أوروبا، حرب استنزاف مع روسيا تهدد بانفجار أوسع. وفي آسيا، الصين تواصل صعودها الاستراتيجي، مع حضور أكثر نشاطاً في ملفات الطاقة والبحار والتكنولوجيا.
لهذا يصبح اجتماع 800 جنرال امريكي في فرجينيا وتحويل وزارة الدفاع الى وزارة حرب أشبه بـ”مجلس حرب عالمي”، حيث تبحث واشنطن كيف تحافظ على هيمنتها بالقوة والسلاح في عالم يتفتت وتزداد فيه القوى الصاعدة تحدياً لنظام ما بعد الحرب الباردة.
الصين: صعود القوة الموازية
بينما تركز واشنطن على الشرق الأوسط وأوكرانيا، تتحرك الصين بخطى متسارعة نحو تهيئة المسرح لغزو تايوان. بكين تنظر إلى انشغال أمريكا في أوروبا والشرق الأوسط كنافذة استراتيجية تتيح لها تغيير قواعد اللعبة في آسيا.
الموقف الصيني: يعتبر تايوان جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، وهي تعد خطة عسكرية متكاملة تشمل حصاراً بحرياً، ضربات صاروخية دقيقة، وتحييد القوات الأمريكية في المحيط الهادئ.
أما الدعم لإيران: الصين لا تكتفي بالتصعيد ضد واشنطن شرق آسيا، بل تمد نفوذها إلى الشرق الأوسط عبر تزويد إيران بتقنيات دفاع جوي متطورة، بينها أنظمة قادرة على التعامل مع الطائرات الأمريكية الشبحية. هذا الدعم يعزز قدرة طهران على الصمود في مواجهة أي ضربة إسرائيلية أو أمريكية، ويحوّلها إلى جزء من شبكة دفاع صيني روسي ممتدة.
هناك ملامح تحالف بين روسيا وإيران: تعتبر موسكو الشراكة مع ايران ضرورة في هذا التوقيت، لانها منخرطة في صراع وجودي مع الناتو في أوكرانيا، فنقلت شراكتها مع إيران إلى مستوى غير مسبوق. إيران حصلت على طائرات Sukhoi Su-35
الروسية، ما يمنحها تفوقاً جوياً نوعياً في الإقليم. بالمقابل، توفر طهران لروسيا صواريخ باليستية وطائرات مسيرة عززت قدرات موسكو في أوكرانيا. هذا التبادل العسكري يجعل إيران جزءاً أساسياً من معسكر روسيا الصين في مواجهة المحور الأمريكي الأوروبي الإسرائيلي.
أوكرانيا وأوروبا: حرب تستنزف الغرب
بينما تتحرك الطائرات الأميركية نحو الشرق الأوسط، يشهد المسرح الأوروبي تصعيداً غير مسبوق. الناتو والاتحاد الأوروبي يخصصان 140 مليار دولار لدعم أوكرانيا بأسلحة متطورة، من بينها صواريخ بعيدة المدى قادرة على ضرب العمق الروسي. موسكو ترد بتحذيرات واضحة: أي تجاوز لخطوطها الحمراء سيقابل باستخدام الأسلحة الاستراتيجية، بما في ذلك منظومات “الأورشنك” والصواريخ فرط الصوتية.
هذا المشهد يضع أوروبا في مأزق مزدوج.. من جهة الحاجة للوقوف إلى جانب أوكرانيا، مهما كلف الأمر. ومن جهة أخرى، إدراك أن أي مواجهة شاملة مع روسيا ستكون انتحاراً استراتيجياً، نظراً لافتقارها إلى القدرة على تحمل حرب طويلة أو نووية.
إيران وإسرائيل على حافة المواجهة
تمتلك إيران اليوم أكثر من 440 كغم من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، ما يضعها على بُعد أسابيع أو أيام قليلة من الوصول إلى العتبة العسكرية (90%) في حال اتخذ القرار السياسي. في المقابل، عودة عقوبات “سناب باك” الأممية ضيّقت الخناق على طهران، بينما تتصاعد الأصوات داخل البرلمان الإيراني الداعية للانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي NPT ، خطوة يُنظر إليها في تل أبيب وواشنطن على أنها إعلان مواجهة محتملة.
المواجهة الأخيرة العسكرية التي استمرت 12 يوماً وانتهت بوقف إطلاق نار دون هدنة سياسية رسمية، أظهرت تحول المعادلة التقليدية للصراع. فقد ردّت إيران مباشرة على الضربات الإسرائيلية، ما جعل أي تهدئة مؤقتة أقرب إلى فرض قوة على الأرض، لا إلى حل دبلوماسي مستدام.
اليوم، تبدو إسرائيل أقرب من أي وقت مضى إلى شن ضربات على منشآت نووية استراتيجية مثل نطنز، فوردو، وأصفهان. لكن الحسابات تغيرت، أي عملية عسكرية لن تواجه رداً بالوكالة فقط، بل باستهداف مباشر للقواعد الأمريكية في العراق والخليج، مع فتح جبهات محتملة في لبنان واليمن وربما شرق المتوسط.
وفي هذا السياق، تبرز منشأة فوردو النووية كأحد أعقد التحديات. تقع فوردو داخل جبل صلب بعمق يتجاوز 80 متراً، ومحاطة بطبقات من الخرسانة المسلحة والتربة، ما يجعلها منيعة أمام الغارات التقليدية. حتى القاذفات الأمريكية من طراز B-52 والقنابل الخارقة للتحصينات مثل GBU-57) ) التي ضربتها لم تتمكن من تدميرها بشكل كامل، بل أوقفت عملياتها عند إحداث أضرار جزئية فقط.
السؤال المركزي الآن: هل تستطيع الولايات المتحدة تحمل كلفة حرب إقليمية مفتوحة في الشرق الأوسط، بينما هي منشغلة بصراع متصاعد مع روسيا في أوكرانيا وتواجه تحدياً استراتيجياً متنامياً من الصين على جبهة تايوان؟ فضلاً عن مشاكلها الداخلية فهي تعاني من الديون الكبيرة، التي أدت الى الانغلاق الحكومي.
التداعيات الإقليمية
منطقة الشرق الأوسط ليست مجرد ساحة ثانوية؛ بل هي نقطة الالتقاء بين خطوط الطاقة والتجارة والأمن العالمي. وأي مواجهة أميركية إيرانية لن تبقى محصورة في الخليج، بل ستتوسع تداعياتها نحو:
الشرق الأوسط: أي مواجهة مباشرة بين واشنطن وطهران ستفتح الساحات من العراق ولبنان إلى اليمن وفلسطين، وبذلك تتسع ساحات المواجهة.
أما أوروبا: انغماس أمريكا في جبهة جديدة بالشرق الأوسط سيضعف قدرتها على تمويل أوكرانيا، ويفتح الباب أمام روسيا لتوسيع مكاسبها على حساب الاراضي الاوروبية.
أما في آسيا: تحاول الصين أن تستغل انشغال أمريكا بثلاث جبهات لتوجيه ضربة حاسمة في مضيق تايوان، ما يعني انتقال العالم إلى حرب باردة جديدة بنكهة ساخنة.
هنا تتحول الطائرات الأميركية للتزود بالوقود إلى إشارة بأن الحرب المقبلة، إن اندلعت، ستكون مختلفة: واسعة، طويلة، ومعقدة بما يكفي لجرّ النظام الدولي كله إلى إعادة تشكيل نفسه.