إصلاح المصارف في العراق بين واقع النفوذ ومشروع التحديث المصرفي

د. احمد هذال/ استاذ الاقتصاد/ الجامعة المستنصرية

في ظل الانكشاف الهيكلي للنظام المالي العراقي وتراجع ثقة الجمهور في المؤسسات المصرفية، أطلق البنك المركزي العراقي مبادرة إصلاح مصرفي هي الأوسع منذ عام 2003، تهدف إلى إعادة هيكلة المصارف الخاصة وفق ثلاثة مسارات واضحة: الاستمرار، أو الدمج، أو التصفية، المبادرة التي دخلت حيز التنفيذ في آب 2025 تضع المصارف أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الامتثال لمعايير الحوكمة والشفافية والرقابة، أو الخروج من السوق بشكل منظم.

المشكلة لا تكمن فقط في ضعف البنية التحتية لبعض المصارف فقط، بل في امتناع عدد منها عن الالتزام بشروط الإصلاح، خاصة تلك التي تمس ملفات الإفصاح عن الملكية، والعلاقات مع الأطراف المتنفذة. فبعض هذه المصارف لم تبنِ ثروتها على أسس مصرفية حقيقية، بل استفادت من عوائد الريع النفطي بصورة غير مباشرة نتيجة الاعتماد على النفط بنسبة اكثر من 90‎%‎ في الموازنة العامة و اكثر من 65‎%‎ من الناتج المحلي الاجمالي، فضلاً عن أرباح التحويلات الخارجية للعملة الاجنبية، ومبادرات الاقراض التي يطلقها البنك المركزي والحكومة، ما جعلها تفضل الحفاظ على الوضع القائم بدل الانتقال إلى نموذج مصرفي منتج.

البنك المركزي ألزم جميع المصارف التي تنوي الاستمرار في السوق برفع رأس مالها المدفوع إلى 400 مليار دينار، وتقديم تقارير مالية مدققة، والامتثال لمعايير الشفافية، ومكافحة غسل الأموال، ونسب السيولة والملاءة المالية. كما فرض إصلاحات بنيوية على مجالس الإدارة، وشروطا على نظم الدفع الإلكترونية وخدمة العملاء، بالإضافة إلى رسوم إصلاح سنوية توازي 2.4 مليون دولار للمصرف الواحد.
غير أن بعض المصارف تنظر إلى هذه المتطلبات بوصفها تهديداً لمصالح شركائها المتنفذين، فترفض الانخراط الكامل في المشروع، رغم التهديد بإعادة توجيهها إلى مسار التصفية أو الدمج، ويبدو أن هناك صراعاً صامتاً يدور خلف الكواليس بين إرادة الإصلاح التي يتبناها البنك المركزي، ومراكز القوى المستفيدة من الفوضى التنظيمية السابقة.
أما الشركة الدولية المكلّفة بتنفيذ خطة الإصلاح فتمتلك من الناحية النظرية القدرة الفنية على التطبيق، لكن نجاحها فعلياً مرهون بمدى التعاون الحقيقي من المصارف، وحجم الصلاحيات التي تُمنح لها.، فبدون الشفافية والامتثال الفعلي من الداخل، ستبقى الخطط حبراً على ورق.

الإصلاح المصرفي في العراق ليس مجرد إجراءات تقنية، بل هو معركة سيادية ضد الفساد المالي والريع السياسي، وإذا أراد العراق أن يحقق نمواً اقتصادياً مستدامًا، فإن عليه أن يحوّل المصارف من أدوات للربح السريع إلى روافع مالية للاستثمار والتنمية، وتحقيق الشمول المالي، وبناء الثقة بين المواطن والمصرف، والخطوة المهمة تبدأ بتطبيق المعايير بشفافية وبتدرج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار