القراءة في عصر الشاشات

بقلم/ مؤمن ياسين صبيح
لقد شهدت العقود الأخيرة تحوّلاً جذريًا في سلوكيات الأفراد تجاه المعرفة، مع بروز الشاشات الرقمية كوسيط رئيسي لاستهلاك المحتوى. وبينما كانت القراءة الورقية لعقود طويلة تمثل المصدر الأصيل للفكر والثقافة، أصبح الإنسان المعاصر يستهلك كمًا هائلًا من المعلومات اليومية عبر الهواتف الذكية، والأجهزة اللوحية، والحواسيب، وحتى الساعات الرقمية وغيرها, وهذا التحول يثير تساؤلات جوهرية حول مستقبل القراءة، ومعناها، وقيمتها في عصر تتسارع فيه الإشعارات وتتقلص فيه مساحة التأمل,حيث تُعد القراءة واحدة من أهم العمليات العقلية التي تُسهم في بناء الوعي الإنساني، وتوسيع المدارك، وصقل التفكير النقدي.
غير أن القراءة الرقمية باتت تفرض نمطًا جديدًا من التعامل مع النصوص، يتّسم بالسرعة والتجزئة،فبدلاً من الانغماس في كتاب ورقي لعدة ساعات، أصبح الكثيرون يقرؤون عناوين الأخبار، أو منشورات قصيرة، أو محتوى ترفيهي متقطع، مما يؤثر في عمق الفهم والتركيز والقدرة على التحليل,ورغم ما توفره القراءة عبر الشاشات من سهولة الوصول، وسرعة البحث، وتعدد الوسائط (مثل الفيديو، والروابط التفاعلية,وغيرها)، فإن هذه المزايا كثيرًا ما تأتي على حساب التفاعل العميق مع النصوص, فقد أظهرت دراسات نفسية وأكاديمية أن القراءة من الورق تُسهم في تعزيز الذاكرة طويلة المدى، بينما القراءة الرقمية ترتبط غالبًا بتشتت الانتباه والقراءة السطحية, ومن الملاحظ أن منصات التواصل الاجتماعي، التي تتغذى على المحتوى القصير والسريع، قد غيّرت مفهوم “القراءة” لدى الجيل الجديد، فأصبح الكثيرون يميلون إلى الاستهلاك السريع للمعلومة دون التعمق فيها، وهو ما يُضعف مهارات النقد والتحليل، ويُرسّخ ثقافة “التمرير” أكثر من “التمعن”.
لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل أن القراءة الرقمية قد ساعدت في توسيع قاعدة القراء، وأتاحت الوصول إلى مصادر معرفية كانت في السابق محصورة على المكتبات الورقية. كما أسهمت التطبيقات والمنصات التفاعلية في تشجيع البعض على العودة إلى القراءة، خاصة من خلال الكتب الصوتية، أو المقالات المختصرة، أو الملخصات الذكية,
إزاء هذا الواقع، يبدو أن التحدي ليس في وجود الشاشات بحد ذاتها، بل في كيفية استخدامها، وفي نوعية المحتوى الذي يُستهلك عبرها,فما تزال هناك حاجة ماسّة إلى إعادة بناء ثقافة القراءة الواعية، سواء عبر الورق أو الشاشة، من خلال توجيه الأطفال والمراهقين نحو الكتب الجادة، وتعزيز التذوق الأدبي، وتنمية مهارات التفكير النقدي.
في الختام، يمكن القول إن القراءة في عصر الشاشات هي سيف ذو حدين؛ فهي تمثل فرصة ذهبية لنشر المعرفة إذا ما تم استخدامها بوعي، لكنها قد تتحوّل إلى أداة لتفتيت الوعي وتبسيط الفكر إذا أُسيء استخدامها. والمسؤولية في ذلك مشتركة بين الأفراد، والمؤسسات التعليمية، وصنّاع المحتوى، لضمان بقاء القراءة أداة للتفكير والتنوير، لا مجرد وسيلة ترفيهية عابرة.