شيطنة البيئة الشيعية

ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي

في المشهد العراقي، لم تعد السياسة وحدها ميدان الصراع، بل أصبحت الجغرافية الاجتماعية والديموغرافية ميداناً للاتهام والتشويه والتوظيف الإعلامي. واللافت أن الجغرافية الشيعية، الممتدة من بغداد إلى البصرة، تحولت إلى ساحة مفتوحة للتشهير الإعلامي ، حتى بات أي خطأ فردي أو خلل إداري أو حادث جنائي مادة دسمة لتعميم الاتهام وتشويه صورة مجتمع كامل.

أولاً: الجغرافية الشيعية هدف إعلامي وسياسي

الإعلام الموجّه والمضلل، ضد البيئة الشيعية، لا يكتفي بذكر الواقعة (أي واقعة) بأنها حدث عابر، بل يحولها إلى قضية رأي عام، ويوظفها لتغذية السردية الكبرى.
حيث يصور أن هذه المناطق هي بيئة فساد وسلاح وميليشيات وفوضى وخيانة وطنية. في حين أن الوقائع اليومية المماثلة، وربما الأشد فداحة، في الجغرافية السنية والكردية تمر بلا أثر يُذكر. مثل: اقتتال عشائري بينها وبين سلطة الاقليم اربيل، وقتل كردي لمواطنين عراقيين عرب في محطة بانزين؟ وفساد علني في مؤسسات الأنبار؟ وبناء قصور لسياسيين في الانبار؟ فضلا عن حوادث القتل اليومي، كل ذلك يمر وكأنه تفاصيل عابرة، لا يثير اهتمام الاعلام الخنجري.
هنا تتجلى الازدواجية الصارخة، كأن المطلوب أن تبقى “الهوية الشيعية السياسية والاجتماعية” مرادفةً للفوضى والخراب، في حين تُغسل بقية المناطق من عيوبها و تكتسب حصانة من النقد .

ثانياً: تحويل الأزمات اليومية إلى أوراق ضغط

الآلية الأساسية لشيطنة البيئة الشيعية تقوم على تسييس الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والخدمية. أي حادثة في البصرة أو ذي قار أو بغداد تتحول إلى شرارة محتملة لحرق الشارع، يجري تغذيتها بالمنظمات، والتغطية الإعلامية المكثفة، والدعم الداخلي والخارجي. والغاية ليست إنصاف الضحية أو معالجة الخلل، بل توظيفها كأداة ضغط على القوى السياسية الشيعية الحاكمة، وإرباك الشارع بما يؤدي إلى هز شرعية النظام السياسي بأكمله.
قضية انتحار الدكتورة بان رحمها الله مثال بارز. حادثة ذات أبعاد شخصية ونفسية تحولت بين ليلة وضحاها إلى قضية دولية، وصلت حتى إلى بيانات “إدانة” من الكيان الصهيوني. جرى ربطها بمحافظ البصرة وزوجته، وصناعة روايات وسيناريوهات خيالية، وذلك قبل أن يقل القضاء العراقي كلمة الفصل بعد. في المقابل نجد أن هناك عشرات الحالات المشابهة في العراق وخارجه لا تجد من يغطيها، الرسالة واضحة: المستهدف ليس بان، بل البيئة التي تحتضن بان.

ثالثاً: الحشد الشعبي جوهر الصراع

الهدف الأعمق لشيطنة البيئة الشيعية هو إضعاف الحشد الشعبي، وتجريد سلاحه، هذه القوة التي نشأت من رحم هذه البيئة بعد فتوى السيد علي السيستاني (حفظه الله) عام 2014. الحشد الذي أعاد للعراق توازنه بعد انهيار الجيش أمام داعش، يُصور اليوم كقوة “خارجة عن القانون”، وكعبء على الدولة، في حين أن الحقيقة أن بقاء النظام السياسي في وجه الارتدادات الطائفية مرهون بوجوده. والمطالبات بتفكيك الحشد أو تقليصه تأتي في لحظة حساسة: منها طرح ملفات تقاعدية وتشريعات لتنظيمه داخل المؤسسة الأمنية مطروحة. على مجلس البرلمان للتصويت عليها، في حين يواجه ضغوطات إقليمية ودولية لإخراجه من المعادلة. فهناك سيناريو مرعب يراد له خلق محاولات “فوضى منظمة” داخل البيئة الشيعية. تهدف الى تفكيك الحشد. وهذا التفكيك لا يعني “إصلاح الدولة”، بل يعني ترك النظام السياسي العراقي عارياً أمام الإرهاب القادم من غرب الحدود، خصوصاً مع وجود جيش تقليدي ضعيف التسليح ثبت عجزه أمام العصابات الارهابية عام 2014.

رابعاً: سيناريوهات تفكيك النظام السياسي

المخطط لا يقف عند حدود التشويه الإعلامي أو إثارة الضجيج في الشارع، بل يتدرج بخطوات مدروسة نحو إعادة صياغة معادلة الحكم في العراق. البداية تكون من إشعال فتيل الأزمات داخل البيئة الشيعية، أزمات تفتعل أو تُضخم حتى تتحول إلى كرة نار، تدفع الشارع إلى الغضب والانفجار.
وحين يخرج الناس إلى الساحات، يحدث الاحتكاك الحتمي مع القوات الأمنية، فيسقط الضحايا وتسيل الدماء، وتتحول المطالبات الخدمية أو الاجتماعية إلى قضية سياسية كبرى. عندها تتهيأ الأرضية لتدخل خارجي، يأتي هذه المرة تحت يافطة “حماية المدنيين” أو “منع الفوضى”، لكنه في الجوهر تدخل لإعادة تشكيل قواعد اللعبة السياسية.

المرحلة التالية لا تقل خطورة: تأجيل الانتخابات بذريعة أن البلاد غير مستقرة، والدفع باتجاه “حكومة إنقاذ وطني” لا تنبثق من صناديق الاقتراع بل تُفرض من الخارج، برعاية أممية أو إقليمية. حكومة مؤقتة في الشكل، لكنها تحمل في طياتها تفويضاً لإعادة هندسة العراق سياسياً وأمنياً.

وفي هذه اللحظة يظهر “الرجل البديل”، شخصية مجهّزة مسبقاً، قد لا يختلف في ملامحه عن “جولاني” آخر، يُقدم بصفته المنقذ، تنفتح عليه صناديق الاموال الخليجية، وترفع عنه امريكا العقوبات المالية، وتمده قطر بالغاز والطاقة. بينما تكمن مهمته الحقيقية في تفكيك الحشد الشعبي، وإضعاف القوى السياسية الشيعية، وجرّ العراق إلى محور التطبيع مع قافلة المحور الصهيو- أمريكي، مع إغلاق الباب نهائياً أمام العمق الاستراتيجي الإيراني وقطع الطريق على محور المقاومة. بهذا التسلسل، يتحول العراق من دولة تقاوم وتناور إلى كيان منزوع السلاح والهوية، مقيّد الإرادة، يضع تحت الوصايا الخليجية -التركية – الاسرائيلية، على خطى سوريا تماماً.

خامساً: خطورة الانزلاق الشعبي

المأساة الحقيقية لا تكمن في الحوادث بحد ذاتها، بل في طريقة تلقّي الشارع لها. فشرائح واسعة من الجمهور تبتلع ما يُضخ إليها من روايات وصور دون تمحيص أو تحقق، وكأنها حقائق مطلقة. الغضب المشروع من سوء الخدمات، وتذمر الناس من الفساد، يتحول بسهولة إلى وقود يُستخدم لإشعال معركة أكبر من مطالبهم اليومية.
هنا تكمن الخطورة: الناس يُدفعون إلى الشارع بعاطفة صادقة، لكنهم يجهلون أن الحوادث الفردية التي يهتفون باسمها ليست سوى فتيل صغير في مخطط ضخم. القضية لا تتعلق بإنصاف مواطن مظلوم أو محاسبة فاسد بعينه، بل بخلط الأوراق وضرب التوازن الوطني بأسره.

بهذا الشكل، يتحول الجمهور من ضحية سوء الخدمات إلى أداة غير واعية لتدمير منظومة سياسية كاملة، ومن غضب مشروع إلى وقود لفوضى مُصممة سلفاً، حيث تنتهي الأصوات المقهورة في خدمة أهداف لا علاقة لها بآلام الناس ولا بمصالحهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار