تركيا تُنهي الاتفاق مع العراق – وكردستان تُسلّم النفط

بقلم/ ناجي الغزي

في لحظة إقليمية معقدة، حيث تعاد هيكلة الممرات الاستراتيجية للطاقة في الشرق الأوسط، أعلنت تركيا، رسمياً، عبر قرار رئاسي بتاريخ 21 تموز 2025، إنهاء اتفاقية خط أنابيب النفط الخام مع العراق عبر خط كركوك – جيهان، بعد أكثر من خمسة عقود على توقيعها. وبينما لا يزال هذا القرار ينتظر دخوله حيّز التنفيذ في 27 تموز 2026، تعطيل هذا الخط سيكلف العراق خسائر ما يقارب 4 مليارات دولار سنوياً. وهذا ما اثبته أزمة النفط في مارس 2023. بدأت ارتداداته تتبلور على المستويين السياسي والاقتصادي، لا في بغداد وأنقرة فقط، بل في أربيل أيضاً، حيث استجابت حكومة إقليم كردستان سريعاً لهذه التغيرات، وسلّمت النفط القابل للتصدير – والذي لا يتجاوز حالياً 50 ألف برميل يومياً – إلى بغداد، مقابل تأمين رواتب موظفيها، والتخلّي عن الخطاب الانفصالي لصالح سردية “الشراكة الوطنية”.
هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة حتمية لتبدّل موازين القوة، وتراكمات فشل مشاريع قائمة على التناقضات، وتلاقي مصالح كبرى أعادت رسم خريطة العلاقة بين بغداد وأنقرة من جهة، وبغداد وأربيل من جهة أخرى.

أولًا: أنقرة تعيد رسم خريطة المصالح النفطية

1- قرار أنقرة بإنهاء اتفاقية 1973 لم يكن مجرد إجراء قانوني، بل هو موقف سياسي واستراتيجي بامتياز. فقد جاء بعد الحكم الذي صدر عن محكمة التحكيم الدولية في باريس عام 2023، والذي ألزَم تركيا بدفع 1.47 مليار دولار تعويضاً للعراق بسبب سماحها لحكومة الإقليم بتصدير النفط دون موافقة بغداد.
ورغم أن تركيا كانت شريكاً غير مباشر في تلك الترتيبات، فإنها شعرت بالخديعة السياسية والقانونية. لذا جاء قرار الإنهاء كخطوة “تنظيف ميداني” لمسار قديم بات عبئاً، وكنقطة انطلاق نحو مشروع أكثر طموحاً: خط أنابيب البصرة – سيلوبي، الذي يتكامل مع “طريق التنمية” لربط الخليج بأوروبا عبر تركيا.

2- التحول التركي من دعم أربيل إلى التعويل على بغداد في ملف تصدير النفط يعكس قراءة استراتيجية للمشهد. فقد أصبح الاستثمار في الإقليم مكلفاً قانونياً بعد الحكم القضائي، بينما باتت الطموحات الانفصالية تهدد وحدة العراق وتوازنات تركيا الداخلية. في المقابل، توفر بغداد إطاراً قانونياً أكثر استقراراً ومركزية واضحة في إدارة الطاقة، ما يجعلها شريكاً موثوقاً لتركيا على المدى البعيد ضمن معادلة المصالح الإقليمية المتغيرة.

ثانياً: أربيل تُسلم النفط – من الانفصال إلى الشراكة القسرية

1- منذ توقف تصدير النفط عبر خط جيهان في مارس 2023 استجابةً لحكم قضائي، دخلت أربيل أزمة مالية خانقة بخسارة 85% من إيراداتها. انسحبت شركات أجنبية، وتراجعت الاستثمارات، ما أدى لانخفاض الإنتاج إلى أقل من 50 ألف برميل يومياً، أي أقل من عُشر الكمية السابقة. بذلك، تحوّل النفط من ورقة ضغط إلى عبء مالي بلا عائد، مما دفع الإقليم للعودة إلى بغداد، وتسليم النفط مقابل تأمين رواتب موظفيه.

2- التحول في الخطاب السياسي الكردي يعكس انهيار النموذج الاقتصادي للإقليم، بعد فقدان السيطرة على ممرات التصدير، وتراجع الإنتاج، والاعتماد الكامل على بغداد للرواتب. في هذا السياق، تراجع خطاب “الاستقلال” لصالح مفردات “الشراكة الدستورية” و”تسوية الملفات العالقة”. إنه خطاب فرضته الضرورة الاقتصادية وتغيّر موازين القوة، لا قناعة سياسية راسخة.

ثالثًا: الرابحون والخاسرون في المشهد الجديد

في مشهد متغير يعكس صراع مصالح معقّد، بغداد كأكبر الرابحين. فقد استعادت مركزية القرار في ملف تصدير النفط، وأنهت فوضى قانونية تسببت بها صادرات إقليم كردستان المستقلة، لتعود وتفاوض أنقرة وأربيل من موقع قوة. هذا الإنجاز رافقته تحديات؛ إذ بات العراق مطالباً بتطوير البنية التحتية البديلة، سواء بتوسيع موانئ الجنوب أو تنفيذ خط تصدير يمتد من البصرة إلى الحدود التركية، وهو مشروع يتطلب استثمارات ضخمة وتنسيقاً طويل الأمد.
من جهتها، قرأت تركيا التحولات بدقة، وأدركت أن دعم الإقليم على حساب المركز لم يعد مجدياً سياسياً أو قانونياً. بإنهاء الاتفاقية مع العراق، فتحت أنقرة باباً لشراكة استراتيجية ضمن “طريق التنمية”، تؤهلها لتكون عقدة محورية لعبور النفط والبضائع نحو أوروبا. لكنها، بالمقابل، تخسر مؤقتاً قدرتها على التأثير في الملف الكردي وتواجه انكشافاً في تدفقات الطاقة ريثما تُستكمل البدائل.
أما أربيل، فتواجه تراجعاً حاداً في قدرتها التفاوضية، بعدما اضطرت لتسليم إنتاجها القليل (50 ألف برميل يومياً) إلى بغداد مقابل الرواتب. وهي كمية رمزية مقارنة بما كانت تصدر سابقاً (450-500 ألف برميل).هذا التنازل يكشف ليس فقط أزمة مالية، بل انهيار نموذج “الاستقلال الاقتصادي”، ما أفقد الإقليم ورقة ضغط مركزية وقلّص من زخم الخطاب الانفصالي لصالح لغة “الشراكة”.

رابعاً: إعادة التموضع الجيوسياسي بين العراق وتركيا وكردستان

التحولات الجارية فتحت الباب أمام مرحلة جديدة من إعادة التموضع الجيوسياسي والاقتصادي
العراق أمامه فرصة تاريخية لإعادة هيكلة قطاع النفط، عبر الإسراع بتنفيذ مشروع خط البصرة – حديثة – فيشخابور – سيلوبي، بطاقة 2.2 مليون برميل يومياً، وتقوية موانئ التصدير في الجنوب ليس فقط من خلال التفاوض مع تركيا على مشروع جديد يمر من الجنوب إلى الشمال، بل عبر تحويل موانئ البصرة إلى بوابة رئيسية لصادراته، وفرض سيادته الكاملة على ملف الثروات الوطنية، وإنهاء نفوذ الإقليم كـ”طرف ثالث” في معادلة التصدير. وتعزيز دور بغداد كمصدر وحيد وشرعي للنفط العراقي
أما تركيا، فتبدو مصممة على ترسيخ موقعها كعقدة مركزية في شبكة الطاقة واللوجستيات الإقليمية، عبر الربط بين الخليج وأوروبا من جهة، والانخراط في مشاريع ضخمة مع العراق من جهة أخرى، دون التورط في الانقسامات الداخلية التي أثبتت أنها باهظة الثمن.
في المقابل، كردستان تدخل مرحلة دقيقة من “التبعية المالية”، حيث يتقلص هامش المناورة إلى أدنى مستوياته، ويصبح البقاء مرهوناً إما بتطوير نموذج اقتصادي حقيقي بعيد عن النفط، أو بإعادة التفاوض مع بغداد على أسس تعترف بواقع ما بعد خط جيهان، وتعيد صياغة العلاقة بين المركز والإقليم ضمن معادلة شراكة غير مشروطة بالثروة بل بالمصير المشترك.
هكذا يبدو المستقبل مرسوماً بحدود الجغرافيا، وبقوة المصالح، وبحتمية الانفتاح على واقع جديد، يصنعه من يملك القدرة على التكيّف لا من يراهن على أنابيب عابرة للحدود أكل عليها الزمن وشرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار