هاكان فيدان في بغداد: تطمينات على شكل تهديدات

علي إبراهيم / باحث أكاديميّ من دهوك، إقليم كردستان – العراق

في خضمِّ تحوُّلاتٍ إقليميةٍ تعيد تشكيل خريطة النفوذ في الشرق الأوسط، تبرز زيارةُ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى بغداد كحدثٍ استراتيجيٍّ يعكس سعيَ أنقرة لتعزيز دورها بوصفها “مهندس استقرار” في المنطقة. تأتي الزيارة بالتزامن مع إعادة الولايات المتحدة النظرَ في نفوذها أو حتى تردُّدها (زمن الرئيس ترامب المتقلِّب المزاج) في المنطقة، وبروز تحالفاتٍ جديدةٍ قد تترك فراغاتٍ تُهدِّد الأمن القومي لجميع الدول، ولا سيّما تركيا. يتجلّى ذلك بصورةٍ أوضح في ظلِّ التطوُّرات الراهنة في سوريا ما بعد نظام الأسد، إذ تحاول أنقرة توظيف الفراغ السياسي والمرحلة السورية الجديدة برمَّتها لترسيخ وجودها بوصفها قوةً ضامنة او حتى إضفاء الصبغة التركية على المرحلة السورية الجديدة و التفاوض و التساوم باسم سوريا الشرع، بالرغم من التحديات الميدانية، وعلى رأسها استمرار نشاط وحدات قسد الكردية المدعومة أمريكيًّا، التي تراها أنقرة امتدادًا لحزب العمال الكردستاني (PKK)..

من جهةٍ، يحاول فيدان تطمينَ الحكومة العراقية بأن التغييرات في سوريا “لن تُهدِّد أمن العراق”، و المساعدة في تقريب الشرع مع متخذي القرار في بغداد. لكنَّ الخطاب التركي يحمل في طيَّاته رسائلَ مُبطَّنةً أو نيَّاتٍ غير محمودةِ العواقب، عبر الإيحاءِ بقرب تركيا من المناطق أو الجغرافية السُّنية العراقية (الأنبار والموصل)، ما يُشكِّل أداةَ ضغطٍ للأتراك ومُحاولتَهم لتحجيم النفوذ الإيراني في بغداد أو استغلال الظرف الحالي المهزوز بالنسبة للمشروع الشيعي برمَّته. تهدف هذه الاستراتيجية إلى خلق توازنٍ بين التعاون مع العراق والتصدِّي لتهديدات PKK، التي تُعيق مشاريع أنقرة الاقتصادية، وفي مقدمتها مشروع طريق التنمية بقيمة 17 مليار دولار، والذي يربط ميناء الفاو العراقي بتركيا عبر شبكة سككٍ حديديةٍ وطرقٍ سريعة.

يراهن المشروع على تحويل تركيا إلى ممرٍّ لوجستيٍّ يربط الشرق بالغرب، مع تقليل زمن الشحن إلى أوروبا بنحو عشرة أيام، لكنَّ نجاحه يرتبط بتأمين إقليم كردستان العراق من نشاط PKK، الذي يُهدِّد البنى التحتية، وهذا لن يحدث دون تحجيم الدور الإيراني في العراق. كما يسعى المشروع إلى تقليل الاعتماد العراقي على الموانئ الإيرانية، ما يُضعف نفوذ طهران في المحور الشيعي الممتد إلى لبنان. لكنَّ التحدي الأكبر يتمثَّل في جذب تمويلٍ خليجيٍّ (إماراتيٍّ وقطريٍّ) لتنفيذه، كبديلٍ عن المشاريع الصينية، وسط مخاوفَ من ارتفاع تكلفته إلى 24 مليار دولار وفق تقديرات خبراء.

على الصعيد الأمني، لا تزال العمليات العسكرية التركية داخل الأراضي العراقية، مثل عملية “مخلب-القفل”، مصدرَ توتُّرٍ مع بغداد، التي تعتبرها انتهاكًا لسيادتها. بينما تُبرِّر أنقرة هذه الخطوات بضرورة ملاحقة عناصر PKK في جبال قنديل وفي الشريط الحدودي العراقي-التركي برمَّته، مستغلَّةً اتفاقاتٍ سابقةً تُشكِّل قاعدةً استراتيجيةً لهم منذ عقود. وتتَعاظم مخاوف تركيا من تحالفٍ عراقيٍّ–إيرانيٍّ قد يُوظِّف الحشد الشعبي العراقي لدعم PKK ووحدات قسد في سوريا في الآونة الحالية، مستغلًّا هشاشة الوضع السياسي والأمني في “سوريا الجديدة”، ما يُهدِّد أمنها القومي، خاصةً مع استمرار الخلافات حول تقاسم مياه دجلة والفرات، وتصدير النفط عبر ميناء جيهان التركي.

رغم ذلك، قد يستخدم العراق أو يحاول استغلال تقاربه مع تركيا لخلق توازنٍ ضدَّ النفوذ الإيراني، وهذا قد يلقى ترحيبًا أمريكيًّا وغربيًّا ولكن بحدودٍ معقولةٍ وبحذر، عبر تعزيز التبادل التجاري واستخدام العملات المحلية في الصفقات الثنائية. وتعتمد أنقرة على عاملين رئيسين لتحقيق أهدافها: الأول هو نجاح حكومة محمد شياع السوداني في مواجهة الضغوط الإيرانية الداخلية، وهذا ما لا يمكن ضمانه، خصوصًا أن حكومة السوداني قد أتت من رحم “الإطار التنسيقي” المعروف بقربه من إيران وخصومته الواضحة مع تركيا. أمَّا الثاني فهو تعاون إقليم كردستان العراق، عبر دعم الحزب الديمقراطي الكردستاني (KDP) لضمان أمن الحدود، مقابل تخفيف التوترات مع الاتحاد الوطني الكردستاني (PUK) المدعوم إيرانيًّا.

أخيرًا، يمكن اعتبار زيارة فيدان تجسيدًا لمسعى تركيا لتحويل نفسها إلى قوةٍ إقليميةٍ شاملة، تجمع بين القوة الناعمة (المشاريع الاقتصادية) والقوة الصلبة (التدخُّلات الأمنية)، التي يبدو أنَّها في الأخيرة تلقى الكثير من الصعوبات والتحديات. لكنَّ هذا الطموح يصطدم بتحدياتٍ جذرية، كاستمرار وجود PKK في شمال العراق، والتنافس مع إيران على النفوذ في بغداد، والتكلفة الباهظة للمشاريع التنموية. وفي ظلِّ هذه المعادلة المعقَّدة، يبقى نجاح أنقرة مرهونًا بقدرتها على تقديم إغراءاتٍ اقتصاديةٍ للعراق، وإدارة تحالفاتها مع الخليج وإقليم كردستان، دون إثارة صراعٍ مفتوحٍ مع طهران أو الفصائل الكردية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار