ترامب لن يعاقب الفصائل

بقلم/ سعد البدري
يرى مايكل وولف مؤلف كتاب (نار وغضب) ان حب الظهور والرغبة الدائمة في نيل الاعجاب يعكس الشخصية النرجسية التي يملكها دونالد ترامب، وان قراراته السياسية تعكس بشكل كبير سلوكه المتسم بالاندفاع وحب المخاطرة وتحدي المعايير وهو ما ظهر جلياً خلال حفل تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة، فقد ظهر دونالد ترامب في خطابه واثقاً بشكل مفرط، متجاهلاً للتقاليد والبروتوكولات وناقماً على الإدارة السابقة وسياساتها ومستخدماً لغةً قاطعة تحمل الكثير من التحدي، خطابٌ شعبويٌ حماسي حمل في ثناياه الرغبة الجامحة في المواجهة والصدام، مع تصعيدٍ في مستوى الصرامة التي يرغب في انتهاجها في مسائل تتعلق بملفاتٍ كبرى تبدأ بقناة بنما وموقفه من أوروبا وحلف الناتو ومنظمات ومعاهدات دولية ولا تنتهي عند سياساته ضد الصين وفرض التعرفة الجمركية والحرب الروسية الأوكرانية وتلك الحروب التي صرح انه لا يرغب بخوضها والتي تعكس بمجملها مفهوم سياسة الانكفاء الى الداخل التي يتبناها.
ان صورة مشهد هذا الخطاب تشير الى ان القادم من واشنطن سيكون امتداداً واضحاً لما شهدته الفترة الرئاسية الأولى لدونالد ترامب مصحوباً بعوامل داخلية أكثر تأثيراً وتحفيزاً له ولإدارته الجديدة أبرزها الاكتساح الشعبي الكبير في نتائج الانتخابات الرئاسية الامريكية الاخيرة مقارنة بانتخابات عام 2016، واستعادة الحزب الجمهوري للأغلبية التي خسرها في مجلس النواب خلال الانتخابات الفصلية في 2018 وتوحده بشكل كامل خلف قيادة دونالد ترامب على عكس الانقسام الذي كان حاصلاً في عام 2016، إضافة الى اكتساب الرئيس الأمريكي الحالي دعماً صريحاً وتأييداً واضحاً من قبل قادة الاعمال والمشاهير وابرزهم إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ. وخلف ذلك كله يحضر الفريق الذي اختاره الرئيس الأمريكي ليرافقه خلال فترته الرئاسية الثانية بشكل أكثر تناسقاً وقرباً لتوجهاته التي باتت معروفة وواضحة أكثر من أي وقت مضى، هذا الفريق الذي يرى فيه دونالد ترامب انه قادر على تنفيذ وعوده وآماله وتطلعاته على أرض الواقع تحت شعارٍ وهدفٍ واضح هو (جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى)، شعارٌ يمثل السياسة الهادفة الى استعادة القوة والهيمنة على الصعيدين الداخلي والخارجي من خلال إجراء تغييرات واسعة على كافة الاصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
أما أهم العوامل الخارجية وأكثرها تأثيراً والتي تمس الحالة العراقية بشكل مباشر فهي بكل تأكيد التحولات الحادة في موازين قوى الشرق الأوسط وما فرضته نتائج احداث السابع من أكتوبر والتي مازالت تنبؤ بالكثير من التغييرات القادمة في ظل تولي الإدارة الامريكية الجديدة زمام الأمور في المكتب البيضاوي، تلك الإدارة التي تتبنى نهجاً مختلفاً تماماً عن الإدارة السابقة في تعاطيها مع الوضع في الشرق الأوسط عموماً ومع إيران بوجه خاص، حيث يرى الجنرال المتقاعد كيث كيلوج مرشح الرئيس دونالد ترامب لمنصب مبعوث أوكرانيا ضرورة العودة الى سياسة الضغط القصوى ضد ايران التي تمر بأضعف حالاتها، إضافة الى ما نقله مسؤولون في البنتاغون لصحيفة وول ستريت جورنال عن ان إيران ستكون هدفاً رئيسياً وان الرئيس ترامب سيكون متشدداً بهذا الملف، هذا التشدد الذي ربطه كريس برادفورد المحرر في صحيفة ذا صن في نسختها الامريكية والمتخصص في السياسة الامريكية والامن الدولي بالصراع مع الصين ومحاولة استغلالها لإيران لتشتيت انتباه الولايات المتحدة.
ان الاعتقاد بحتمية تطبيق تلك السياسة المتشددة ضد إيران يبدو طبيعياً بناءً على سياسات دونالد ترامب السابقة والتزامه بالوقوف ضد البرنامج النووي الإيراني وسلوكها في المنطقة، وقد يبدو منطقياً النظر لمحاولة اغتياله التي تم احباطها وربطها بإيران كبعدٍ شخصيٍ يضاف الى الابعاد السابقة عطفاً على شخصية ترامب نفسه.
ضمن هذا السياق لا يمكن تصور ان الإدارة الامريكية الجديدة ستعامل العراق بصفته حليفٍ لها أو ستكتفي بفرض بعض العقوبات على عددٍ من الفصائل العراقية أو ان تقوم بتوجيه بعض الضربات الجوية على مقار تلك الفصائل، لان ذلك سيعني الانسياق خلف عامل تشتيت لجهودها في مواجهة إيران والانجرار لمعارك جانبية غير مجدية على المستوى السوقي، وستمثل جانباً ضعيفاً في حملة الضغط القصوى التي تتوعد بتبنيها لتجريد إيران من كل عناصر القوة التي مازالت تحتفظ بها، إلا اذا استثنينا القيام بهذه الاجراءات ضمن سيناريو معد سلفاً بالتنسيق مع اطرافٍ عراقية داخلية يتم على ضوئه ضمان عزل العراق عن ساحة الصراع بشكل كامل، فالإدارة التي تتبنى سياسات تصادمية ولغةً صارمة مع اقرب جيرانها وحلفائها لن تتردد في توجيه ذات اللغة للعراق، خاصةً في ظل التصورات التي يحملها الكثير من أركان الإدارة الامريكية الجديدة عن توجهات المنظومة الشيعية الحاكمة في بغداد والتي يرون أنها تابعة وموالية لإيران وتنساق لأوامرها، خاصة اذا استذكرنا مذكرة القبض الصادرة من السلطة القضائية العراقية بحق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
قد يخطأُ بعض المحللين حين يعتقدون ان خيارات الإدارة الامريكية الجديدة ستنحصر في تعاطيها مع العراق ضمن استراتيجيتها في مواجهة إيران بعقوبات اقتصادية او ضربات عسكرية محدودة، فتلك الإجراءات وان بدت محتملة الا انها قد تكون اكبر بكثير مما يعتقدوه، لكن لا ينبغي لهم ان ينسوا ان ما تملكه تلك الإدارة الان على صعيد العامل الجيوسياسي بعد التغييرات الكبيرة على الساحة السورية سيمنحها قدرة أكبر على الحركة في مساحات أخرى، فقد يُستفاد من هذا العامل في خلق مناطق نفوذٍ اكبر لحلفاء أمريكا من العرب السنة في العراق قد تصل الى دعمهم في مشروع انشاء اقليمهم على قرار الإقليم الكردي في الشمال، وهو الامر الذي سيؤدي الى تقليص نفوذ الجماعات المدعومة من ايران وسيؤدي أيضاً الى قطع الطريق على أي مساعٍ إيرانية محتملة للتأثير على الساحة السورية والنظام الجديد الموالي لتركيا، مع النظر الى ان مشروع إقليم سني هو مشروعٌ تم الحديث عنه سابقاً ويحظى بحسب الكثير من المصادر بدعم سعوديٍ وأردنيٍ وسوريٍ حالياً بكل تأكيد.
تبدو أهداف الصراع القادم في العراق واضحة على عكس أدواته، وتبدو حاجة القوى العراقية الى التوحد ضرورة قصوى من اجل تبني استراتيجية تضمن عدم الذهاب بالعراق الى ما لا يحمد عقباه، استراتيجية قادرة على التعامل مع ما ستأتي به إدارة الرئيس الامريكي دونالد ترامب الذي دعا في دورته الرئاسية الأولى الى سحب القوات الامريكية من العراق، وتبنى خطاباً متشدداً تجاه العديد من المؤسسات المالية العراقية وفرض عليها عقوبات صارمة، ولا يبدو انه سيكون منفتحاً على فكرة وضع العراق كملفٍ تفاوضيٍ إيرانيٍ على طاولة التسوية القادمة ان حدثت ولا عزلهِ عن دائرة الصراع ان وقع. استراتيجية تأخذ بنظر الاعتبار حقيقة ان العراق يختلف عن باقي جبهات محور المقاومة بعوامل عدة تجعل من مسارات الأحداث فيه مختلفةً عما كانت عليه في غزة ولبنان وسوريا، فأمنياً واقتصادياً يرتبط العراق مع الولايات المتحدة باتفاقية مشتركة، وجيولوجياً يرتبط بحدود برية طويلة بإيران، وديموغرافياً يمثل العراق البلد الوحيد من بين بلدان المحور الذي تسكنه أغلبية شيعية، وتسيطر فيه فصائل مسلحة قادرة بما تملكه من جمهورٍ وعدةٍ وعتادٍ على الوقوف بوجه من يريد حلها او التخلص منها، بل واحداث هزات سياسية داخلية تطيحُ بزعامات كبرى، فصائلٌ يقف خلفها دعمٌ عقائديٌ من المرشد الأعلى الذي قال كلمته بضرورة دعم الحشد الشعبي وتعزيز وجوده، ومن الجمهورية الإسلامية في إيران التي مازالت تمتلك القوة وقادرة على التحكم بالعديد من مفاتيح التأثير السياسي والأمني والاجتماعي في العراق.
في كثيرٍ من الأحيان يقدم الامريكيون مطالب واضحة للآخرين، لكن ما لا يقولونه عادة هو ما سيقومون به عند الامتناع عن تلبية تلك المطالب، (وإن كانوا يقولونه أحياناً). وهو أمر ينبغي للسياسي العراقي معرفته وادراكه، والتعامل معه على أساس العقل وبناءً على وضوح الرؤية والهدف، والابتعاد عن أساليب الحكومات الماضية التي اعتمدت التضليل والضبابية في قراراتها ومواقفها التي أوصلت العراق الى هذه المرحلة من التجاذب. ومثلما لا ينبغي خلق حالة خوف وقلق وهمية حول (أعاصير وعواصف التغيير) القادمة كما يسميها بعض المتحمسين ممن يبيعون الأوهام، لا ينبغي ايضاً تجاهل ان منطقة الشرق الأوسط بشكلها الحالي تحكمها مفاتيح عدة نحن لسنا إحداها بالطبع، وان مرحلة التشكل التي تمر بها المنطقة قد تحمل الكثير من المفاجآت خاصةً مع تولي رئيسٍ لا يمكن التنبؤ بقراراته لمقاليد الأمور في البيت الأبيض يضع مجابهة الصين على رأس هرم أولوياته، ويملك في ملف الصراع الروسي الاوكراني الكثير مما يمكن المقايضة به، ويرغب بترويض ايران وتسليم مفاتيح الشرق الأوسط لإسرائيل وتركيا قبل الانكفاء بأمريكا الى الداخل لإعادة بنائها من جديد.