هل سينسحب الكرد من العملية السياسية؟
علي إبراهيم باخ – باحث أكاديمي كوردي
إنّ الإجابة عن هذا السؤال تتطلّب التمعّن في المعطيات التاريخية والسياسية والاقتصادية المستجدّة في المنطقة بشكلٍ عام، وفي العراق بوجهٍ خاص. وعلى الرغم من أنّ مسألة المعاشات ما تزال تمثّل تحدّيًا كبيرًا ينعكس على العلاقة بين أربيل وبغداد، فإنّ احتمال انسحاب الكرد كليًّا من العملية السياسية العراقية يبقى ضعيفًا في الظرف الراهن. غير أنّ التطوّرات الإقليمية الأخيرة، لا سيّما في سوريا، تشير إلى أنّ تغييرات مهمّة قد تُفرض على اللاعبين الذين تربطهم مصالح مباشرة مع إيران، مما قد ينعكس لاحقًا على طبيعة الحكم في العراق وطريقة تعامله مع الملفّات الحسّاسة، ومنها الملفّ الكردي.
بالنسبة لإقليم كردستان، وتحديدًا الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي)، فإنّ وضعيّته الراهنة تبدو أفضل نسبيًّا مقارنةً بباقي الأطراف في العراق. إذ أنّه لا يواجه – من منظوره – تهديدًا وجوديًّا مباشرًا، خاصّةً أنّ بعض القوى الإقليمية والدولية التي تُعتبَر مُتعارضة مع أغلب الفصائل العراقية (كإسرائيل، وفق ما يُروَّج أحيانًا إعلاميًّا) قد لا تُشكّل تحدّيًا فعليًّا أمام البارتي. وبذلك، إذا ما حدثت تغييرات جوهرية في توازنات السلطة في العراق، فربّما سيستفيد الإقليم من هذه التحوّلات، أو في أقلّ التقديرات، لن يتضرّر منها كثيرًا.
يجدر التوقف عند فرضيّةٍ قديمةٍ جديدةٍ تُشير إلى أنّ رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني يُعَدّ قريبًا من الكرد، لكنّ حلفاءه في الإطار التنسيقي لا يسمحون له بالتراخي في التعامل مع الملف الكردي؛ إذ يرتبط استقرار حكومته بتحالفه مع هذه الأطراف. بيد أنّ السوداني، وعلى غرار البارتي، قد يجد نفسه في موقعٍ مريح ما دام لا يتعرّض لأي هجومٍ خارجي واضح، لا سيّما من الولايات المتحدة أو إسرائيل، مما يجعل التقارب مع الكرد خيارًا براغماتيًّا في ظلّ غياب ضغطٍ دوليٍّ مباشر.
النقطة المحورية في هذه المرحلة الدقيقة هي تشكّل تحالفات سياسية جديدة ورسم تفاهمات استراتيجية للمرحلة المقبلة خاصة انتخابات 2025 وان لم تحدث الانتخابات يجب ان تكون هناك تحالفات لكيفية تعاطي مع الملفات الحساسة من ناحية العراق الاتحادي وهذا لا يمكن تحقيقه دون الكرد. يبدو أن جميع الأطراف السياسية تدرك أهمية الكرد كقوة فاعلة ومؤثرة في المشهد العراقي، والكرد بدورهم يدركون ثقل ورقتهم ويستخدمونها في هذا الوقت الحساس، في محاولة لضمان عام 2025 خاليًا من الأزمات المالية، ويُرجّح أن يُعطي الكرد الضوء الأخضر لمن يستطيع تحقيق هذه الغاية وتلبية مطالبهم.
السيناريوهات المحتملة
السيناريو الأول: ضرب القوى المرتبطة بإيران في العراق الاتحادي
في هذا السيناريو، يُفترض أن تُستهدف القوى السياسية والعسكرية المقرّبة من إيران من قبل أطراف خارجية، مثل إسرائيل أو غيرها، مما قد يؤدي إلى تراجع نفوذ هذه القوى داخل العراق. هذا التراجع قد يُغيّر موازين القوى داخل بغداد، ويمنح الأطراف الكردية، وخاصة البارتي، فرصة أكبر للتحرك السياسي.
لطالما كانت كردستان ملاذاً آمناً للعديد من الشخصيات السياسية الهاربة من أنظمة الحكم المختلفة في بغداد، سواء في عهد النظام البعثي أو الحكومات اللاحقة. يشمل ذلك وجوهاً بارزة من السنة مثل طارق الهاشمي، ومن الشيعة مثل مصطفى الكاظمي. هذا الواقع يشكل ورقة ضغط بيد الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي)، حيث يظهر الإقليم كمنطقة آمنة وغير مهددة، مما يمنحه ميزة تفاوضية قوية أمام الحكومة الاتحادية.
قد تكون لدى البارتي قناعة بأن بعض الشخصيات السياسية ستحتاج إلى هذا الملاذ على الصعيد الشخصي أو التجاري، ما يجعل التلويح بورقة الانسحاب حساسًا في هذا التوقيت تحديدًا.
السيناريو الثاني: بقاء النخبة نفسها، ولكن مع ضعفٍ في ارتباطها بالقرار الإيراني
في هذا السيناريو، تبقى القوى السياسية المقرّبة من إيران في المشهد العراقي، لكنّ تأثيرها يتراجع بفعل ضغوطٍ دولية أو إقليمية، أو نتيجة التغيّرات الداخلية. ومع اقتراب الانتخابات الجديدة، يُرجَّح أن يتراجع تأثير الفصائل المسلحة، مثل الحشد الشعبي، في تحديد هوية الفائزين. هذا التراجع قد يقلّل من قدرة هذه الأطراف على فرض أجندتها على الحكومة الاتحادية. الحكومة المقبلة، في ظل هذه المعطيات، قد تسعى للتقرب من الكرد لضمان استقرارها السياسي، خاصة مع إدراك الأطراف السياسية أن الكرد يمثلون ركيزة أساسية في المعادلة السياسية العراقية.
السيناريو الثالث: إعادة ضخ النفط الكردي دون المرور بالموافقات العراقية
هذا الاحتمال يبدو ضعيفًا للغاية، خاصة أن تجارب بيع النفط من 2015-2023 كانت محفوفة بالمشاكل مع كافة الأطراف. ومع ذلك، في ظل التغيرات السريعة في المنطقة، يبقى كل شيء ممكنًا. ومن الأمثلة على المفاجآت في السياسة الإقليمية، تحول شخصيات مثل الجولاني، المطلوب بتهم الإرهاب، إلى شريك في الواقع السوري، مما يؤكد أن الاحتمالات، مهما بدت بعيدة، قد تصبح واقعًا تحت ظروف معينة.
في الأخير، انسحاب الكرد من العملية السياسية يبقى احتمالاً ضعيفًا، خاصة في ظل حاجة جميع الأطراف للتحالف مع الكرد لضمان استقرار المرحلة المقبلة، وكذلك حاجة الكرد إلى تجنب المجازفة بملف حساس كملف المعاشات. التفاهمات الجارية والتغيرات في التوازنات السياسية تشير إلى أن الكرد سيواصلون لعب دور محوري في صياغة مستقبل العراق السياسي، مستفيدين من موقعهم كبيضة القبان في المعادلة العراقية.
من وجهة نظري، القوى السياسية العراقية، بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ستعمل على إنتاج تفاهمات في هذا الصدد من خلال تشكيل لجان واتخاذ خطوات روتينية لضمان الوصول إلى حلول عملية. الملف الأكثر إلحاحاً، وهو المعاشات، سيشهد تطورات إيجابية قريباً، مع توقع التوصل إلى اتفاق خلال اجتماع ائتلاف الدولة المقبل.
سيشارك في هذا الاجتماع رئيس إقليم كردستان، السيد نيجيرفان بارزاني، الذي يُعرف بمهاراته التفاوضية وقدرته على التوصل إلى حلول توافقية تضمن مصالح جميع الأطراف. هذه الديناميكية تشير إلى أن الأزمة الحالية ستُعالج ضمن الإطار السياسي القائم، لان الجميع بحاجة الى الجميع.