نيو طائفية: مزاح “الحدود غير المرئية” يتحول إلى سلوك

بقلم علي حرير |..

 بعد سنوات من السعي الحثيث لتعزيز الوحدة الوطنية والتسامح الطائفي في العراق، تعود الطائفية لتتصدر المشهد مرة أخرى، لتعيد البلاد إلى دوامة التوترات والانقسامات بين الطوائف المختلفة. هذه العودة تتجلى في العديد من الأحداث السياسية والاجتماعية والدينية، لتذكرنا بماضٍ أليم يود العراقيون تجاوزه.

في وسطهِ وغربهِ والعاصمة، عانى العراق بشكل مروّع من الأحداث والمسارات الطائفية خلال سنوات 2005 و2006 وما بعدها، حيث اشتعلت صراعات دامية بين الطوائف، خلفت آثاراً عميقة على المجتمع العراقي. أدت هذه الأحداث إلى تعزيز الهوية الفرعية (المذهبية) على حساب الهوية (الوطنية) الجامعة للمواطنين على حدٍ سواء، مما أثر سلباً على طبيعة التعاملات المجتمعية بين الأفراد، وترك أثراً واضحاً على الاقتصاد والاستثمار والتنمية، بالإضافة إلى نزوح كبير للسكان من مناطقهم الأصلية إلى مناطق تتبع هويتهم الفرعية خشية “الموت” أو “الخطف” أو “التهميش” من الطوائف الأخرى.

العراق، الذي عانى من ويلات الطائفية والانقسامات العميقة، شهد محاولات جادة لتجاوز هذه الأزمات عبر دفنها داخل المجتمع بدلاً من حلها فعلياً. إذ لجأ العراقيون إلى تجنب مواجهة الجروح المفتوحة والعمل على دفنها تحت سطح الحياة اليومية. العائلات، التي مزقتها الحروب والصراعات، تبنت سلوكيات تسعى إلى الحفاظ على السلام الظاهري، حيث تعايش السنة والشيعة والكرد والعرب معاً، لكن مع حدود غير مرئية تفصل بينهم. هذا التعايش الحذر كان مبنياً على تفاهمات غير مكتوبة، تنص على تجنب المواضيع الحساسة والصراعات المباشرة، حتى وصل الحال إلى جملة شهيرة يطلقها العراقيون: “احجي بكلشي ولا احجي بالسياسة”. هذه الجملة لا تحملُ معنًى حرفيًا، وإنما تعني: دعنا من أي تقسيم طائفي أو سياسي أو مجتمعي، حتى لا نختلف فيما بيننا وتعاد أيام الطائفية.

دفن الأزمات لم يكن حلاً جذرياً، فقد ظلت الجروح قائمة تحت السطح، تظهر أحياناً في شكل صراعات صغيرة أو خطاب كراهية. العراقيون، بحكم تجربتهم المريرة، تعلموا كيفية تجنب الانفجار الكامل، لكنهم لم يتمكنوا بعد من الشفاء التام. هذه الديناميكية تعكس الحاجة الملحة لإصلاحات حقيقية تعالج جذور الطائفية، وليس مجرد التعامل مع أعراضها.

في السنوات السابقة التي تلت داعش، كان الخطاب السياسي والاجتماعي والديني في العراق يتمحور بشكل كبير حول الوحدة الوطنية والهوية العراقية الجامعة. إذ كان التركيز على تعزيز مفهوم الوطن والوطنية، حيث كانت هذه القيم تحتل مكانة مركزية في الخطابات والمواقف العامة. ومع ذلك، شهدت الفترة الأخيرة تحولًا جذريًا في هذا النهج، حيث أصبح إبراز الهوية الفرعية أكثر أهمية وتأثيرًا.

تشهد الساحة العراقية في النصف الأول من العام الحالي تجددًا ملحوظًا للنفس والحس الطائفي، حيث تظهر الانقسامات بوضوح في جوانب مختلفة من حياة الفرد العراقي: سياسيًا، اجتماعيًا، دينيًا، وخليط آخر بينهما.

سياسيًا، في 10 نيسان 2024، يعكس إعلان “التيار الوطني الشيعي” من قبل زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر محاولة لاحتكار التشيع داخل تياره الخاص، مما يزيد من التوترات بين التيارات والفصائل الشيعية الأخرى ويقوض فكرة الوحدة والتضامن الشيعي. هذا الإعلان ينطوي على رسائل سياسية تثير التحديات والجدل، ويعزز الانقسامات الداخلية بين سياسيي الشيعة، مما يشرّع الأبواب لخطاب مبني على أسس مذهبية طائفية خالصة إلى المشهد السياسي العراقي. توجه هذه المفاهيم ونوعية الخطابات العامة لأغراض سياسية انتخابية تخضع لرؤية الجمهور الشيعي حامل شعار “المظلومية”، ويجسد هذا الإعلان تحولًا مهمًا في الطابع السياسي العراقي.

في مثال آخر للطائفية السياسية، ولكن بنوعها القومي هذه المرة، شهدت مدينة أربيل في كردستان العراق مساء يوم 15 ديسمبر 2024 قصفًا من الحرس الثوري الإيراني، مما أدى إلى تجدد التشنجات السياسية القومية بين إقليم كردستان العراق والحكومة الاتحادية في بغداد. هذا الهجوم العسكري أثار توترات حادة بين العرب والكرد كقوميتين أساسيتين تكونان معًا النسيج العراقي.

على أثر الحادثة، انقسمت المواقف السياسية والاجتماعية بشكل واضح في الجانب العربي. تباينت ردود الفعل، حيث أيد بعض العرب الضربات، مستندين إلى بيان الحرس الثوري الإيراني الذي اتهم الكرد بإيواء جماعات إسرائيلية في الإقليم. هؤلاء المؤيدون يرون في هذا القصف خطوة مبررة لمكافحة النفوذ الإسرائيلي المزعوم. في المقابل، رفض قسم آخر من العرب هذا الهجوم، دفاعًا عن سيادة العراق ووحدة أراضيه، معتبرين أن القصف الإيراني يعد انتهاكًا للسيادة الوطنية. هذا الانقسام العربي أدى إلى إعادة إحياء الطائفية القومية، حيث تعمقت الخلافات السياسية والمجتمعية بين العرب والكرد.

في الوقت الراهن، ظهرت توجهات جديدة من بعض النخبويين والحركات المدنية تحت مسميات “المدنية الشيعية” و”المدنية السنية”، حيث تتبنى هذه الحركات مبادئ مذهبية معينة وتروج للمحافظة على التقاليد المجتمعية. رغم أنها تسعى لمواجهة الإسلام السياسي بنسخته المسلحة، إلا أنها، في ذات الوقت، تُصرح بأساسها المذهبي وتصدره إعلاميًا، مما يؤدي إلى تعزيز مفاهيم طائفية بصورة نخبوية وتسويقها على شكل مادة واضحة المعالم. وهذا بذاتهِ ينسف أهم مبادئ تأسيس الحزب أو التيار، لمساهمتهم في تعزيز الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الشاملة، مما يؤدي إلى تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي في العراق بدلاً من توحيده.

اجتماعيًا، شهد العراق مؤخرًا الذكرى العاشرة لحادثة الموصل ومجزرة سبايكر 12 حزيران 2014، وهي أحداث تركت جروحًا عميقة في المجتمع. الخطاب الاجتماعي انقسم بحدة بين من يحمل الحكومة الشيعية والقطاعات العسكرية مسؤولية الخيانة، وبين من يصف جميع السنة بالدواعش وينكر دور العشائر السنية والمظلومية التي وقعت على السنة في المناطق الغربية الذين وقفوا بالضد من داعش. إذ أطلق بعض المغردون على منصة إكس (تويتر سابقًا) تسمية للمجزرة بـ”مجزرة تكريت”، وجاءت التسمية نكاية بشيوخ عشائر السنة واتهامًا صريحًا لهم بالخيانة. هذا الانقسام الاجتماعي يعكس انعدام الثقة بين الطوائف والجروح السابقة التي لا تزال لاهبة، مخبأة عن العيان.

رُد على الخطاب الاجتماعي بخطاب ديني موجه من السنة إلى الشيعة في يوم عيد الأضحى الموافق 16 حزيران، حين تحولت المناسبة إلى ساحة صراع إلكتروني طائفي جديد. عبر بوست نُشر من صفحة “الخوة النظيفة” على منصة فيسبوك (ميتا)، حول زيارة حشود من المسلمين الشيعة حرم الإمامين الحسين والعباس في كربلاء المقدسة لإحياء يوم عرفة (9 ذو الحجة حسب التقويم الشيعي)، والذي يُعتبر أول أيام عيد الأضحى (10 ذو الحجة حسب التقويم السني). تقليديًا، كان يُنظر إلى شراء “الكاهي والكيمر” في العيد على أنه مزحة بين السنة والشيعة حول مواعيد الأعياد المختلفة. لكن هذا العام، تحولت المزحة إلى لغة حادة وخطاب كراهية صريح، حيث تبادل الأطراف السب واللعنات والتكفير بسبب مراسيم زيارة يوم عرفة إلى كربلاء، مبررين أنها خاصة بجبل عرفة في مكة المكرمة. لم يعد الكاهي والكيمر المزحة الرائجة، وإنما تحول الموضوع إلى منهج وردة فعل قاسية لخطاب اجتماعي ديني وُجِّه ضد السنة فيما سبق بأيام. هذا يعكس تفاقم المشكلة، فبدلاً من الاحتفال بالاختلاف كجزء من النسيج الوطني، تحول العيد إلى مناسبة لتعزيز الانقسام والاعتزاز المفرط بالمذهب على حساب الوحدة الوطنية.

تجدد الطائفية في العراق يعكس تحديات جسيمة تواجه المجتمع. هذه الأحداث تبرز الحاجة الملحة لتعزيز الحوار الوطني والعمل على بناء مجتمع قائم على الاحترام المتبادل والتعايش السلمي بين جميع الطوائف. فقط من خلال تجاوز هذه الانقسامات وحلها يمكن للعراق أن يتجه نحو مستقبل أكثر استقرارًا ووحدة. يجب على القيادة السياسية والدينية والاجتماعية أن تعمل بجدية على تقليل هذه الفجوات وبناء جسور الثقة بين مختلف مكونات المجتمع العراقي لضمان مستقبل أفضل وأكثر إشراقًا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار