لماذا تحتفي “الجمهورية الإسلامية” بالآثار الساسانية؟ (1)
حميد الكفائي
لم يستغرب العارفون بالشأن الإيراني اهتمام الإيرانيين بالحضارة الساسانية، فمن حقهم أن يفخروا بآثارهم وحضارتهم القديمة، وهذا عمل مشروع لكل شعوب الأرض، فالتأريخ والتراث والآثار تشكل هوية الشعوب، والافتخار بإنجازات الأجداد يعزز الانتماء الوطني ويزيد من ثقة المواطنين بأنفسهم، وهو أمر إيجابي، إن بقي مجردا من التعصب والتقوقع في الماضي.
لذلك لم يُفاجأ المراقبون بإعلان مسؤول في هيئة السياحة الإيرانية، داريوش فرماني، عن البدء في أعمال التنقيب عن الآثار الساسانية في محافظة كرمنشاه، ذات الغالبية الكردية، الذي نشرته صحيفة (طهران تايمز) الصادرة بالإنجليزية بتأريخ 24 فبراير الماضي.
لكن المفاجأة هي أن أعمال التنقيب هذه سوف تشمل العراق والخليج العربي أيضا! وأن اتفاقية وُقِّعت بين إيران والعراق للتنقيب عن الآثار الساسانية في السليمانية وكرميان وحلبجة، بل وفي بغداد، وتحديدا في منطقة المدائن، الواقعة على ضفاف نهر دجلة، جنوب شرقي العاصمة، والتي ما يزال في أطرافها أثرٌ قديم يحمل اسم (طاق كسرى).
ويقول فرماني، حسبما نقلت الصحيفة، إن البحث جارٍ على قدم وساق في كل المناطق التي تضم آثارا ساسانية وباراثية، والهدف هو تسجيل هذه الآثار، حتى الموجود منها في العراق على ما يبدو، في قائمة التراث العالمي! ويبدو أن إيران تعتزم تسجيل هذه الآثار العراقية في اليونسكو باسمها، مستغلة ضعف الحكومة العراقية، ووجود جماعات مسلحة في العراق تأتمر بأمر حكامها. وهذه الآثار ليست ساسانية كما سيتضح لاحقا.
المدائن، المعروفة سابقا بـ طيسفون، (Ctesiphon)، مدينة أسسها الإغريق، وكانت في بداياتها معسكرا للجيش الإغريقي، قرب مدينة أخرى هي سلوقيا (Seleucia) التي كانت مقرا لهم، وهي مدينة عامرة في تلك الفترة، أسسها الملك الإغريقي سيليوقس نيكتور عام 305 قبل الميلاد، لتكون عاصمة له أثناء حكمه العراق وإيران وأفغانستان وتركمانستان.
وحسب الكتب التأريخية الموثوقة، ومنها الموسوعة البريطانية (Encyclopaedia Britannica)، فإن نهر دجلة كان يجري بين سلوقيا وطيسفون، لكن مسار النهر تغير لاحقا، فصار يشق طيسفون في الوسط. وقد نمت تلك القرية لتصبح مدينة في ظل السلوقيين الإغريق. فهي إذن أثر عراقي إغريقي وليس ساسانياً. لكن الإيرانيين عودونا بأن لا مشكلة لديهم في تغيير الحقائق كي تنسجم مع مُدَّعياتهم الكثيرة.
وبعد السلوقيين، احتلها الباراثيون، واتخذوا منها عاصمة شتوية لهم منذ عام 247 قبل الميلاد حتى نهاية حكمهم عام 224م. وعندما أسقط الساسانيون حكم الباراثيين، استولوا على طيسفون عند احتلالهم بابل، واتخذوا منها عاصمة لهم إذ كانت مدينة مكتملة وعامرة حينها.
وحسب المؤرخ الإنجليزي بلير فوكس-تشايلدز، الذي كتب سلسلة من الكتب حول تأريخ الحضارات القديمة في الشرق الأوسط، والتي نشر بعضها متحف متروبوليتان، فإن الساسانيين اعتنقوا الديانة الزرادشتية أثناء عهد الملك أردشير، حفيد ساسان، الذي حكم في الفترة 241-272م، فصارت الديانة الزرادشتية الدين الرسمي للدولة الساسانية، علما أنها نشأت في عصر الإخمينيين. وبقي الساسانيون الزرادشتيون في طيسفون حتى أزاحهم العرب المسلمون منها، وأسقطوا إمبراطوريتهم المتهرئة مطلع القرن السابع الميلادي، وبالتحديد عام 637م، فهرب ملكهم، يزدجرد، إلى مَرُو، وظل متخفيا هناك حتى قتل عام 651م.
ومنذ ذلك الحين صارت إيران جزءا من الدولة الإسلامية، واعتنق الإيرانيون الإسلام، وتأثرت اللغة الفارسية تأثرا واسعا باللغة العربية فصارت معظم مفرداتها عربية أو مشتقة منها. وبقي الإسلام دين سكان إيران خلال حكم السلالات الفارسية والتركية والمغولية التي تعاقبت على حكمها. في العصور المتأخرة حكمت إيران سلالات مختلفة، كالبويهيين والسامانيين والسلاجقة ثم الصفويين والأفشاريين والقاجاريين، وتعرضت إلى الاحتلال الروسي بعد هزيمة الفرس في الحرب الروسية الفارسية عام 1813، كما احتلت بريطانيا والدولة العثمانية أجزاءً منها.
بقيت إيران بلدا مفككا تخضع أجزاء منه لعدة دول، حتى تمكن الجنرال رضا خان عام 1921، بدعم مباشر من بريطانيا، وبتوجيه من قائد القوات البريطانية في إيران، الجنرال أدمون آيرونسايد، من السيطرة على البلد وتشكيل حكومة جديدة برئاسة ضياء الدين طباطبائي، والتي صار فيها رضا خان وزيرا للحرب، لكنه أزاح طباطبائي بعد فترة وجيزة وتولى رئاسة الوزراء بنفسه.
وبدعم من البريطانيين، أطاح رضا خان بالسلالة القاجارية، بعد أن ضعفت كثيرا، وسافر آخر ملوكها، أحمد شاه، إلى أوروبا “للعلاج”، ورفض العودة إلى إيران، إذ بقي في أوروبا حتى رحيله. تولى رضا خان حكم إيران، وأمر المجلس (البرلمان)، الذي شُكل بعد الثورة الدستورية عام 1905، بخلع الملك أحمد شاه، وتنصيب نفسه ملكا عام 1926، متبنيا لقبا جديدا هو (بهلوي)، الذي يربطه بالساسانيين الزرادشتيين، لأن (بهلوي) هي اللغة السائدة في العهد الساساني.
السلالات التي حكمت إيران الإسلامية لم تكن دائما فارسية، بمن فيهم الصفويون، الذين ادعوا بأنهم من أصول عربية، من أجل اكتساب الشرعية الدينية، لكنهم في الحقيقة أتراك، إذ كانت لغتهم تركية، وهناك كتابات وأشعار للملوك الصفويين مدونة بالتركية، علما أن الفارسية كانت لغتهم الرسمية. ورغم أن الدولة الصفوية كانت دولة قوية، وشمل حكمها مناطق شاسعة من أوروبا وأسيا، من روسيا وجورجيا وأرمينيا واليونان وأوزبكستان والعراق وسوريا حتى أفغانستان وباكستان، إلا أن تعصبهم الطائفي وسعيهم لفرض مذهبهم على الشعوب الإسلامية التي حكموها، قد جعلهم غير مؤهلين لأن يكونوا مصدر فخر لشعوب إيران.
استمر حكم الصفويين رسميا 220 عاما تقريبا، وفعليا 150 عاما، إذ صار ضعيفا في السبعين سنة الأخيرة، وفي النهاية تمكن نادر شاه من إسقاطه وتأسيس حكم السلالة الأفشارية عام 1736، التي حكمت ستين عاما فقط، إذ أسقطتها السلالة القاجارية، التي شهد حكمها احتلال الروس والبريطانيين لإيران، فتحولت إيران إلى دولة بالاسم فقط.
التعصب القومي الفارسي، الذي كان سائدا في العصر الساساني، والذي تسبب في إسقاط الدولة الساسانية، انبعث مرة أخرى في الفترات اللاحقة، خصوصا في عصر السلالة البهلوية، علما أن كل الذين حكموا إيران، تبنوا القومية واللغة الفارسيتين. بينما طغى على التعصب الطائفي حكم السلالتين الصفوية والأفشارية.
تميزت السلالة البهلوية بالحنكة السياسية والكفاءة الإدارية، إذ تمكنت من توحيد إيران وتخليصها من النفوذ الروسي، بالتعاون مع بريطانيا، ثم الحد من النفوذ البريطاني، بالتعاون مع روسيا، لكن هذه السياسة المراوِغة التي اتبعها رضا خان (بهلوي)، طوال حكمه الذي دام عشرين عاما، فشلت عندما تحالف الروس والبريطانيين عام 1941، واحتلوا إيران معا، وحينها أجبره البريطانيون على التنازل عن العرش لابنه محمد رضا بهلوي، كي يتبع سياسة جديدة تتلاءم مع الوضع الجديد.
وبسبب نجاح الأسرة البهلوية في توحيد إيران وإدارتها بالقوة العسكرية، ونشر أفكارها عبر النظام التعليمي الحديث، فقد سادت تلك الأفكار القومية المتشددة، بين الإيرانيين الفرس، وكنتيجة، صار ارتباط إيران وثيقا بالعهد الساساني، لأن هناك شعورا عند الطبقة الحاكمة، وقد صار شعورا عاما لاحقا، بأن الفترة الوحيدة التي يحق الأمة الإيرانية أن تفتخر بها هي فترة حكم الفرس الساسانيين، إذ صارت إيران بعدها تابعة لدول وامبراطوريات عديدة، ابتداءً من الدولة الإسلامية، ثم السلاجقة، الذي تبعه احتلال المغول لها، ثم انتشار الطاعون (الموت الأسود) الذي قتل 30% من سكانها، ثم احتلال تيمورلنك لها.
لقد تبنى رضا خان في 31 مارس عام 1925، التقويم الحالي لإيران المختلف عن كل التقاويم العالمية، إذ تبدأ السنة بأول أيام الربيع، وفق النظرية الزرادشتية للكون، بينما يبدأ تأريخ التقويم من عصر الإخمينيين، الذين ظهر في عهدهم الفيلسوف زرادشت، مؤسس الديانة الزرادشتية (ويقول باحثون إنه لم يؤسسها لأن أفكارها سبقت عصره، بل كان مصلحا دينيا)، والإخمينيون وبعدهم الساسانيون، تحدثوا باللغة البهلوية، التي تختلف عن الفارسية المعاصرة. أسماء أشهر السنة الإيرانية بقيت كما كانت في عهد الإخمينيين، وهي فروردين واردیبهشت وخرداد وتير ومرداد وشهريور ومهر وآبان وآذر ودي وبهمن واسفند.
وتعترف الموسوعة الإيرانية (Encyclopaedia Iranica)، ضمنيا وعلى استحياء، بأن التقويم الإيراني الشمسي “مماثل” للتقويم البابلي، دون ذكر الحقيقة الكاملة وهي أن الحضارة البابلية سبقت الساسانيين بأكثر من ألفي عام، ما يعني أن الساسانيين والباراثيين والإخمينيين استقوا ما لديهم من علوم من الحضارات العراقية السابقة لهم وأهمها البابلية، وإلا من أين جاء هذا التماثل؟
النظام الإيراني الحالي تبنى أفكار الأسرة البهلوية التي أسقطها، بل بزها في تشدده وتعصبه القومي وسعيه للهيمنة على الدول المجاورة، وأضفى صبغة دينية (إسلامية) على أفكاره وأفعاله كي تكتسب شرعية دينية تمكِّنه من تبرير أفعاله وتحشيد الأتباع في إيران والدول الأخرى، من أجل التوسع الجغرافي وتعزيز نفوذه السياسي والاقتصادي في العالم الإسلامي.
وإلا كيف يمكن تبرير سياسات النظام القائمة على الاحتفاء بالساسانيين الزرادشتيين، وتمجيد عصرهم وربط إيران “الإٍسلامية” بهم؟ الزرادشتية ديانة محترمة، كباقي ديانات الكون، ولا توجد مشكلة في الأمر لو كان النظام قوميا علمانيا، كما كان النظام البهلوي، لكن النظام الحالي أسس شرعية وجوده على الإسلام، ومن هنا يبرز التناقض الصارخ.
سكاي نيوز