الاستثمار في العراق بين الفرص وضرورات التحول المستدام

بقلم/ الدكتور نوري صباح الدليمي – وزير التخطيط الأسبق

 

المقدمة

يمتلك العراق – بحكم موقعه الجغرافي، وثرواته الطبيعية والبشرية، وتاريخه الحضاري – مقومات هائلة تجعله أرضاً خصبة للاستثمارات المتنوعة. بعد سنوات من الاعتماد شبه الكامل على النفط كرافد رئيسي للإيرادات، بات من الضروري إعادة صياغة مفهوم الاستثمار في العراق، ليُصبح الاستثمار بذلك ركيزة للنمو والتنمية المستدامة، لا مجرد أداة لجني أرباح سريعة. لكن هذا التحول يتطلب بيئة ملائمة، رؤية واضحة، إصلاحات سياسية وقانونية، والتزاماً بمصلحة الوطن والمواطن.

 

فرص استثمارية حقيقية، إذا أُعِدّت البيئة المناسبة

العراق يمتلك موارد طبيعية متعددة: نفط وغاز، وقطاعات غير مستثمرة كـ الزراعة، المعادن، الطاقة المتجددة، الخدمات، السياحة، ما يتيح تنويع الاقتصاد بعيداً عن الريع النفطي.

الطلب المحلي على البنية التحتية الأساسية (طرق، ماء، كهرباء، خدمات عامة)، وإعادة الإعمار، يوفّر نطاقاً واسعاً للاستثمارات، محلياً وعالمياً.

هذا فضلاً عن رأس المال العراقي المغترب، والاستثمارات الإقليمية، المرتبطتين بشكل مباشر بتأمين مناخ جذب واضح.

 

رؤية إصلاحية – خطوات لتفعيل الاستثمار بشكل مستدام وعادل

 

من تجربتنا في وزارة التخطيط، والعمل بعدها مع مختلف القطاعات في قطاعات التنمية المختلفة، أرى أن على العراق أن يتبنّى “نهج استثماري متوازن ومسؤول” يرتكز على المحاور التالية:

 

  1. إصلاح الإطار القانوني والإداري للاستثمار

تحديث وتنفيذ قوانين الاستثمار (مثل قانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2006) بشكل فعّال، مع تشريعات مصاحبة واضحة، لتغليب الشفافية وسهولة الإجراءات.

استحداث جهة تنسيقية عليا للاستثمار (أو تفعيل الموجودة) تُعنى بتسهيل الاستثمارات، ربط المستثمر بالدولة، وتذليل العقبات الإدارية، مع ضمان استقرار تشريعي وقانوني.

 

  1. تنويع الاقتصاد والتركيز على القطاعات غير النفطية

تشجيع الاستثمار في الزراعة، الصناعة التحويلية، الطاقة المتجددة، الخدمات، تكنولوجيا المعلومات، السياحة، وغيرها من القطاعات التي يمكن أن تولّد فرص عمل وتقلل اعتمادنا على النفط.

دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتسهيل وصولها إلى رأس المال، التسهيلات المالية، وتدريب الكوادر، لزيادة مشاركة القطاع الخاص وتقليل البطالة.

 

  1. ضمان بيئة استثمارية عادلة ومستقرة

تحسين البنية التحتية الأساسية (كهرباء، ماء، طرق، اتصالات) لتكون داعمة لأي مشروع — لأن المستثمر لا يستثمر في بلد تُعاني مرافقه الأساسية.

تعزيز أمن الاستثمار: استقرار سياسي، أمن قانوني، عدالة في تطبيق القوانين، حماية المستثمر، وضمان حقوق العمال والمواطنين.

مكافحة الفساد وتحسين الحوكمة: لأن غياب الشفافية والمحاسبة يزعزع ثقة المستثمر ويحول الاستثمار إلى مخاطرة.

استثمار القدرات الوطنية وتقديمها كقدرات داعمة، يمكنها العمل بكفاءة مع المستثمرين وضمان استدامة مشاريعهم.

 

  1. تنمية رأس المال البشري والتحول التقني

الاستثمار في التعليم، التدريب المهني، وتأهيل القوى العاملة، لتمكين القطاع الخاص والمشاريع من الاستفادة من خبرات محلية بدلاً من الاعتماد الكلي على اليد العاملة الأجنبية أو المستوردة.

دعم استخدام التكنولوجيا، الابتكار، والتحول الرقمي (بما في ذلك تبني الذكاء الاصطناعي والحلول الحديثة في الإدارة والحوكمة) لتقليل الكلفة، زيادة الكفاءة، وجذب استثمارات نوعية، والاستفادة من ذلك من التجارب الإقليمية والدولية الناجحة.

 

  1. إطار تشاركي بين الدولة، القطاع الخاص، والمجتمع المدني

تشجيع شراكات حقيقية تدعم مشاريع تنموية في البنية التحتية، الزراعة، الطاقة، الصناعة، الخدمات، مع ضمان مشاركة المجتمع المحلي والمراقبة الشفافة.

مراعاة العدالة الاجتماعية في توزيع عوائد الاستثمار: إذ ليس الهدف فقط الربح، بل خلق فرص، تحسين حياة المواطن، وتقليل الفوارق الاقتصادية.

 

خاتمة

العراق (اليوم أكثر من أي وقت مضى) بحاجة إلى استراتيجية استثمارية متوازنة، توازن بين الطموح والواقعية، بين جذب المال والتنمية المجتمعية، بين الربح والخدمة العامة. الاستثمار يجب أن يكون أداة لإعادة الإعمار، لتشغيل الشباب، لتنمية القطاعات المتنوعة، وليس وسيلة لإعادة إنتاج الريع والاقتصاد الأحادي.

 

إذا لم نضع القواعد الصحيحة الآن “قانونية، إدارية، تنموية، اجتماعية” فإن السنوات القادمة ستشهد مزيداً من الفرص الضائعة، وربما تكرار لتجربة الاقتصاد الريعي الهشّ.

ومن خلال هذا المنبر أدعو جميع المعنيين (مسؤولين، اقتصاديين، مستثمرين، شباب) لأن نتكاتف معاً لبناء بيئة استثمارية عادلة، شفافة، مُحفّزة، وقادرة على ضمان مستقبل أفضل لكل عراقي. فالاستثمار ليس هدفاً بحد ذاته، بل وسيلة لتحقيق التنمية والإزدهار والاستقرار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار