بين السطر الروائي والمشهد التلفزيوني … قد يخسر النص وتربح الشاشة

بقلم/ ناصر طه
شهدت السنوات الأخيرة تزايدا ملحوظا لظاهرة يمكن تسميتها بـــــ”نهضة الإعداد الدرامي” ، حيث باتت الروايات الأدبية أحد أهم المصادر الخصبة لصناع الدراما التلفزيونية الباحثين عن قصص ذات بنية سردية عميقة وشخصيات معقدة مبنية بطريقة مؤثرة وتترك أثرا لدى القارئ الذي هو المشاهد أيضا. وإذا استبعدنا مظاهر الاستسهال أو التقليد التي يقع فيها بعض المبسطين وغير الملمين بالصناعة الدرامية ، فإن عملية تحويل أو تكييف رواية إلى مسلسل درامي يعد فنا قائما بحد ذاته حيث ترصد له جوائز وتقييمات أكاديمية خاصة ، ويقوم هذا الفن على تفاعل دقيق بين عالمين مختلفين في طبيعتهما التعبيرية.. عالم الكلمة المكتوبة للرواية ، وعالم الصورة المتحركة الذي يعد الأساس المتين في كتابة السيناريو. وبين هذين العالمين ، تتشكل احتمالات لا حصر لها ، وتنطوي على مخاطر لا ينبغي الاستهانة بها ، لأنها تنتج قرارات إبداعية مصيرية قد تتكلل بنجاح ساحق أو تسقط في هوة فشل صاخب.
تكييف الرواية إلى مسلسل درامي ، لا ينحصر في زاوية “نقل المحتوى” بطريقة استنساخية فجة ، بل ينفتح على ترجمة ثقافية وجمالية ، تتطلب درجة عالية من الوعي والمعرفة الدقيقة بطبيعة الوسيط الجديد ” السيناريو ” . فالرواية في الغالب وسيلة فردية ، داخلية ، يتفاعل معها القارئ وفقا لإيقاعه الخاص ، ويملأ عادة فراغات سطورها بخياله الشخصي. أما سيناريو المسلسل التلفزيوني ، فهو عمل جماعي، مرئي ، مسموع ، يفرض إيقاعه على المشاهد ، ويستدرجه ، ويحدد له زوايا النظر ، ويقدم له الشخصيات واللحظات الدرامية بشكل ملموس واضح يفرض عليه ، ولا يترك له مجالا خياليا واسعا للتأويل كما لو كان قارئا.
أمام هذه الحقيقة يبرز التحدي الأكبر لكتاب السيناريو ، والذي يتمثل بالسؤال المهم التالي : هل نحافظ على النص الأدبي كما هو ، أم نعيد تشكيله وفقا لمتطلبات الشاشة؟
جوابا على هذا السؤال ظهر نوعان من التكييف أو الإعداد الدرامي .. الأول ما يسميه المختصون ” الإعداد الوفي ” للنص … وفيه يسعى صناع العمل إلى الالتزام بالبنية الأصلية للنص الأدبي .. شخصياته ، وحبكته ، ولغته ، وترتيب مشاهده. هذا النهج يؤمن للملتزمين به رضا قراء الرواية إلى حد كبير ، القراء الذين يتوقعون رؤية النص الذي أحبوه يجسد بحذافيره تقريبا على الشاشة. لكن هذا النوع غالبا ما يصطدم بمعايير ومبادئ الوسيط التلفزيوني ، الذي لا يؤمن بالإسهاب الأدبي ، ويكفر بالاستطراد ، ويبحث دائما عن حبكة مركزة ومشاهد مشحونة دراميا في كل حلقة.
أما النوع الثاني فهو ما اصطلح عليه بـــ” الإعداد الإبداعي ” وفيه يأخذ كتاب السيناريو وصناع الدراما حرية أكبر في تعديل العمل الأدبي وتغيير أحداثه وفقا للرؤية الصورية التي يريدون تقديمها للمتفرج! ولهذا لا يترددون في تكثيفه أو إعادة تأطيره أو حتى قلب بعض عناصره رأسا على عقب. لا يتخوف أصحاب النوع الثاني من حذف شخصيات أو دمج فصول أو خلق نهايات درامية جديدة لم ترد في النص الأصلي. هدفهم طبعا لا يعد خيانة كما يحاول محبو العمل الأدبي لصق هذه التهمة بهم! إنما هم يسعون لإعادة تأويلها لأن التلفزيون في نهاية المطاف ليس مرآة للرواية ، إنه يعمل ويتحدث بلغة مختلفة ، لها قواعدها وزمنها وجمهورها.
شخصيا أميل إلى حد كبير للنوع الثاني كخيار يمنحني حرية الإبداع في المجال الذي أعمل فيه ! مع ذلك ينطوي هذا النوع على مخاطرة ليس بالسهل تجنبها ، ويقع في شراكها المبتدؤون. هذه المخاطرة تتجلى في أن المشاهد للمسلسل المعد عن رواية يأتي حاملا معه رؤية مسبقة وذاكرة راسخة للرواية ، كما يحمل في داخله حزمة من التوقعات، وصعب عليه أن يغفر لصناعه أي انحراف كبير عن ” نصه المقدس “. هذه المخاطرة وحدها تكفي لكي يتسلح كتاب السيناريو بما أسميه ” البراعة المزدوجة ” وهي أن يكون مخلصا لروح الرواية ، لا لنصها فقط ، وأن يعرف جيدا متى يجب أن يلتزم بما يراه مناسبا لروح وسيطه ، وأين يجب أن يجازف ، ويرمي ما يتعارض في النص الأدبي ، مع قصته الصورية التي يكتبها عنه.
في نوعي الإعداد المشار إليها يواجه صناع هذا النوع الدرامي تحديات جمة أخرى! أهمها ، الهيكلة الزمنية للرواية التي قد تشغل زمنا يمتد لعقود وتروى من منظور داخلي أو زمني معقد ، فيما المسلسل يعتمد تقسيما واضحا لحلقات ذات بناء تصاعدي ، ونهايات تجذب المشاهد للحلقة التالية. ولهذا ينبغي أن نعرف جيدا الإجابة على الأسئلة التالية : كيف نعيد رسم هذا الزمن دراميا ؟ من أين نبدأ ؟ وإلى أين ننتهي ؟ وما الذي نحذفه دون أن نفقد العمل روحه؟ إنها لأسئلة ليست تقنية فقط كما يتوهم بعض المستسهلين لخطورة الإعداد الدرامي ، بل هي أسئلة جوهرية وفلسفية وجمالية عميقة ينبغي أن نجيب عليها قبل أن نقدم على مغامرة إعداد وتكييف رواية أدبية لمسلسل تلفزيوني.
التحدي الآخر يتمثل في اللغة والمونولوج الداخلي. الرواية تتفنن في التعبير عن الحالة النفسية لشخصياتها من خلال التأمل والحوارات الداخلية ، والوصف والولوج في تيار الوعي الذي يكشف عن الأفكار والمشاعر الداخلية لها. لكن هذا التفنن الأدبي لا يشتغل بذات الطريقة على الشاشة التلفزيونية التي تستبدل التأمل بالصمت المحسوب المعبر ، والوصف الداخلي للمشاعر بالإيماءة والتعبير الجسدي. الشاشة بمعنى واضح تشترط أدوات تعبير بديلة… حزن الشخصية يترجم بنظرة ، والتردد بحركة يد مثلا ، والخوف بتعبير محسوب يظهر في العين بلقطة متقنة. مواجهة هذا التحدي يوجب على صناع الدراما ، اختيار ممثلين حقيقيين وليس مجرد ناقلي حوار كما نرى في الكثير من درامانا المتلفزة. نحتاج لمجسدي أعماق نفسية تزخر بها شخصيات الرواية. هذا هو الخيار الوحيد الذي يقنع القارئ – المشاهد بمتابعة المسلسل المعد عن عمل أدبي.
تصميم العالم البصري للرواية ” ديكور وملابس وموسيقى وإضاءة ” أحد تحديات الإعداد التلفزيوني المهمة والحساسة جدا. فالرواية غالبا ما تقدم وصفا عاما للمكان والبيئة ، ويترك كتابها مساحات يملؤها خيال القارئ. أما المسلسل ، فيجسّد هذا العالم أمام أعيننا ، ولهذا فأي تفصيلة بصرية نختارها ، مهما كانت صغيرة ، يجب أن تكون قادرة على تعزيز الشعور بالانغماس في المسلسل ! وأي إخفاق في هذا الجانب يعني تدمير متابعته ، خصوصا وأن قارئ الرواية قد يكون بنى في ذهنه عالما خاصا جدا ، لا يتطابق مع ما يراه لاحقا على الشاشة.
هذه الصعوبات والتحديات ، إذا ما تمت مواجهتها بالمعرفة والخبرة والإبداع الحقيقي فسيكون الإعداد التلفزيوني للعمل الروائي ، إضافة حقيقية ، وإضاءة جديدة له تقدمه بطريقة مدهشة للجمهور الحديث ، وسينجح نجاحا باهرا ، بل ويضيف أبعادا جمالية وإبداعية للنص الأصلي .
من تابع مسلسل ” قصة خادمة ” للكاتبة ” مارغريت أتوود ” على سبيل المثال ، سيجد أن الموسم الأول له التزم بالنوع الأول ” الإعداد الوفي ” للنص ، فيما المواسم التالية تبنى صناعه وبمشاركة الكاتبة ذاتها… نوع ” الإعداد الإبداعي ” ، حيث ظهرت شخصيات جديدة ، وتم تطوير خطوط حبكة لم تكن موجودة في الرواية الأصلية ، مثل توسّع دور المقاومة ، وتعقيد العلاقات داخل جلعاد وخارجها. الأحداث اتخذت منحى سياسيا ونفسيا أعمق ، كل ذلك جرى باستلهام روح الرواية دون التقيد بها حرفيا.
خلاصة القول : الإعداد الدرامي ليس فنا تابعا للأدب ، بل هو امتداد له ، ولكن عبر وسيط مختلف يمنحنا فرصة عظيمة لإعادة اكتشاف الأدب ، لا كمادة للقراءة فقط ، بل كمنجم لا ينضب من الرؤى والأحاسيس والصراعات الإنسانية. الشرط الوحيد لنجاح هذا الإعداد هو أن يتم بحب وبفهم دقيق لحرفة وفن كتابة السيناريو وصناعة الدراما ، وبعين تدرك أن الكلمة قد تتحوّل إلى صورة مدهشة … دون أن تفقد صوتها.