اللواء سعد معن: من كظم الغيض إلى رحمة المبعث

بقلم اللواء الدكتور سعد معن

عندما نتأمل في شخصية الإمام موسى بن جعفر الكاظم، ذلك الذي لقب بـ”كاظم الغيظ”، نجد أنفسنا أمام نموذج إنساني عظيم يحمل في طياته فلسفة عميقة تتجاوز الزمان والمكان. القوة هنا ليست في الهيمنة على الآخرين، بل في السيطرة على الذات، في كبح جماح الغضب الذي يُعد من أكثر المشاعر البشرية تدميراً. وفي هذه القدرة على ضبط النفس نجد انعكاساً حياً لقوله تعالى: “وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” (آل عمران: 134).

إن كظم الغيظ فعل أخلاقي يمارسه الإنسان حين تسنح له الفرصة، ويجسد حالة من التسامي الروحي والوعي بأن الغضب، حين ينفجر، لا يحرق سوى صاحبه. الإمام الكاظم لم يكتم غضبه فقط، إنما حوله إلى طاقة للتسامح، حتى مع أولئك الذين تجاوزوا كل حدود الإساءة. يُروى أنه كان يواجه الإساءات بالدعاء والإحسان، فيصنع بذلك معجزة أخلاقية تعيد تشكيل الإنسان الذي أمامه.

وهنا يتبلور البعد العميق لهذه الفلسفة الإنسانية، حيث يُطلب من الإنسان أن يختار الرحمة على الغضب، تماماً كما دعانا النبي محمد (ص) حين بُعث رحمةً للعالمين. يوم المبعث ليس ذكرى نزول الوحي، هو تذكير دائم بأن رسالة السماء جاءت لتقود الإنسان إلى التحرر من أهوائه وغرائزه. الرحمة التي تجسدت في حياة النبي الكريم كانت دعوة مفتوحة للجميع إلى أن يتحرروا من قيود الانتقام والأنانية، ليصبحوا جزءاً من نسيج إنساني قائم على المحبة والإحسان.

في أعماق هذه الفلسفة يمكننا القول “إن كنتَ تبحث عن السماء، فانظر إلى داخلك”.
السماء الحقيقية ليست بعيدة عن الإنسان، بل تسكن روحه إذا ما اختار الصفح بدل الحقد، وكظم الغيظ بدل التفجير به. في هذا المعنى، نجد أنه استلهم الكثير من القرآن الكريم يدعونا إلى معركة داخلية تجعل من الإنسان ميداناً لإقامة العدل والسلام.

الإمام الكاظم، في مسيرته التي كانت مليئة بالمحن، لم ينكسر أمام القسوة التي واجهها، لكنه رفع راية القوة الحقيقية: القوة التي تأتي من الحلم والكرم. وقد عبّر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عن هذا المعنى حين قال: “أقهر غضبك بحلمك، ونفسك بكرمك، وخصمك بإحسانك”. هذا القول بحد ذاته حكمة تُردد، وهو دستور حياة يختصر مساراً أخلاقياً وإنسانياً عظيماً.

إن النظر إلى شخصية الإمام الكاظم ويوم المبعث النبوي كحدثين منفصلين يرسخ جوهر المعنى؛ فكلاهما ينبعان من نفس النهر الذي يدعونا إلى بناء إنسان متسامٍ على أهوائه، يحمل في داخله السلام قبل أن يطالب به من الآخرين. النبي والإمام لم يدعوان إلى قيم مجردة، بل عاشا تلك القيم بأفعال تجعلنا ندرك أن كظم الغيظ والعفو ليسا ضعفاً، بل أعظم أشكال القوة.

حين نعيش في عالم تتفشى فيه الأنانية والغضب، تظل هذه الدروس بمثابة نور يهدينا إلى الطريق الصحيح لأن العفو ليس فقط من أجل الآخر، بل من أجل أن نكون نحن أنفسنا أقرب إلى السما

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار