تشجيع الاستثمار الخاص في المرحلة الحالية (رؤية تحليلية)

بقلم/ الدكتور صفاء الشمري
اتجهت سياسة الحكومة العراقية منذ عام 2006 إلى تشجيع الاستثمار وانتهاج سياسة الانفتاح الاقتصادي التي بدأت مع صدور القانون رقم 13 لسنة 2006 المعدل في شأن الاستثمار .
وتلا ذلك صدور عدد من أنظمة والتعديلات المكملة والتى استهدفت بصورة أساسية اضافة أنشطة ومجالات الى المجالات المتمتعة بضمانات وحوافز الاستثمار .
ففي ظل تعاظم حدة المنافسة الدولية على جذب الاستثمارات الخاصة فان تهيئة الإطار القانوني المناسب للاستثمار تعد أحد العناصر الهامة لتحسين بيئة الاستثمار واستقرار المعاملات ، ورفع درجة الثقة في جدارة النظام الاقتصادي ككل ، وهذه كلها تمثل شروطا جوهرية لاستقطاب الاستثمارات الخاصة.
فالحماية القانونية وتيسير المعاملات والإجراءات التي يوفرها الإطار القانوني السليم هي التي تشجع على التراكم الرأسمالي ، وتؤدي إلى تخفيض تكاليف المعاملات ، وتسهم في منح المستثمرين الشعور بالاستقرار الحقيقي الذي يحتاج إليه أي استثمار طويل الاجل.
لقد كانت الصورة السائدة في القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين تعكس تنافس الشركات والمستثمرين في كسب رضا الدول المضيفة أو التأثير فيها ، وقد انقلب هذا الوضع رأسا على عقب ، فإذا بصورة تطالعنا الآن وتحوى عددا كبيرا من الدول شديدة الحاجة إلى رأس المال ، تتنافس من اجل أن تجتذب إليها الاستثمارات الأجنبية.
ولأن التشريع يساعد على تهيئة المناخ الاقتصادي الملائم فانه بقدر ما تنجح الحكومات في إصدار التشريعات المناسبة والملائمة لاوضاعها المحلية المتجاوبة مع المتغيرات الدولية ، بقدر ما ينعكس ذلك في استجابة المزيد من المستثمرين للتوسع الاستثماري ، فترتفع أحجام الاستثمارات وتتزايد معدلات النمو ، مما يؤدي إلى زيادة الصادرات ، وانخفاض مستويات البطالة.
لذلك يمكن القول أن توافر عناصر الإنتاج ، واتساع حجم السوق واصلاح هياكل الأسعار ، تعتبر شروطا ضرورية ، ولكنها ليست كافية بذاتها لتحقيق المزيد من الجذب الاستثماري الخاص للاقتصاد القومي ، فوجود عناصر شك أو غموض تكتنف بعض مكونات المناخ الاستثماري للاقتصاد القومي ، وعدم شفافية التشريعات ووضوحها يضعف من استجابة الاستثمار للتوسع ، كما أن عدم التأكد من استمرارية السياسات ، وتوقع العدول عن التشريعات المطبقة يمثل عاملا حاسما في إعاقة التوسع الاستثماري.
ولأن التشريع هو أحد أهم العناصر المؤثرة في تكوين المناخ الاقتصادي الذي يعمل فيه المستثمر ، فان عدم الاستقرار التشريعي معناه عدم استقرار قواعد اللعبة كما يقال ، مما يؤدي إلى وجود مناخ اقتصادي يتسم بعدم التأكد والمخاطرة الاستثمارية ، ويجعل المستثمرين يترددون كثيرا في القيام باستثمارات جديدة ، أو يتجهون إلى التركيز على المشروعات ذات المردود الكبير والسريع.
وإذا كنا نتفق على أن القانون يجب أن يأتي انعكاسا للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي السائد في المجتمع ، والظروف التي يمر بها ، فانه يمثل ، أيضاً – أداة لترجمة السياسات إلى قواعد وإجراءات لتحقيق الأهداف التي تبتغيها الدولة ، لذلك فلا بد من التوفيق بين السياسة التشريعية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة. وتأسيسا على ذلك فان الإصلاح الاقتصادي، لا يمكن أن تكتمل آثاره الإيجابية إلا إذا واكبه إصلاح في جميع المجالات الأخرى وخاصة في المجالات القانونية والإدارية لما لهذه المجالات جميعا من تأثير خاص ومباشر على المعاملات. ويلاحظ أن الإصلاح القانوني لا يقتصر على وضع القواعد التي تستجيب للحاجات الاجتماعية ، وتتوخى العدالة ، وتتسم بالوضوح ، بل لا بد أن يشمل هذا الإصلاح أيضاً الأجهزة والآليات والإجراءات التي تضمن وضع هذه القواعد موضع التطبيق الفعلي.
لقد حدثت تغيرات جوهرية في استراتيجية الاستثمار في العراق، فقد أصبحت التنمية، منذ عام 2004 تعتمد بشكل متزايد على نمو وتعاظم الاستثمار الخاص الوطني والأجنبي على حد سواء.
فمنذ بداية تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي عام 2004 اتجه الاهتمام إلى وضع إطار تنظيمي وتشريعي مناسب يجري تطويره لخلق بيئة استثمارية مواتيه لجذب رؤوس الأموال، وتحفيز أنشطة القطاع الخاص من خلال الاعتماد المتزايد على آليات السوق، والتخلص من الكثير منا القيود والإجراءات الإدارية والمؤسسية المتعلقة بالاستثمار عموما، والتي تحد من نطاق وفعالية القطاع الخاص.
وفى سبيل تحقيق ذلك صدرت مجموعة من القوانين ، واتخذت العديد من الإجراءات التي تستهدف إفساح مجال أوسع للنشاط الخاص العراقي والأجنبي لكي يؤدي دوره كقطاع رائد أو محرك رئيسي لعملية التنمية سواء في مجال نمو الناتج القومي، أو خلق فرص العمل الجديدة، أو رفع القدرات التصديرية للاقتصاد القومي.
وقد شهدت الفترة التي تعطي العقود الثلاثة الماضية عدة تطورات نتج عنها عدداً من التشريعات الاستثمارية المتعاقبة ، التي تستهدف تحرير الاقتصاد القومي من القيود المفروضة على النشاط الاقتصادي بصورة متزايدة ، وتنشيط القطاع الخاص المحلي والأجنبي ومنحه العديد من الحوافز والضمانات ، وإتاحة المزيد من الحرية له في مزاولة نشاطه.
وتحاول هذه الدراسة أن تتناول التطور التشريعي للاستثمار الخاص في العراق من خلال عرض وتحليل الأبعاد والمحاور الرئيسية لقوانين الاستثمار وانعكاساتها في المحيط الاقتصادي باعتبارها مؤثرة فيه ومتأثرة به .
عملية الإصلاح الاقتصادي
في أوائل عام 2004 بدأ مسار عملية الإصلاح الاقتصادي يتسارع بعد الاتفاق مع صندوق النقد والبنك الدوليين ، وبداية إسقاط جزء من المديونية الخارجية . وتحددت التوجهات الاستثمارية في تركيز الاستثمار الحكومي على تهيئة عناصر البنية الأساسية والخدمات الاجتماعية الضرورية، مع إفساح مجالات أوسع أمام استثمارات القطاع الخاص الوطني والأجنبي بكافة أشكالها مباشرة أو غير مباشرة .
وفى ضوء الفلسفة التي تستند إلى تقليص التدخل المباشر للدولة في النشاط الاقتصادي يقع العبء الأكبر في دفع حركة التنمية على القطاع الخاص ، لذلك اتجهت الدولة إلى إزالة المعوقات التشريعية والمؤسسية التي تحد من نطاق وفعالية القطاع الخاص والاعتماد المتزايد على آليات السوق ويكفي للتدليل على أهمية استجابة الاستثمار الخاص لهذه المؤشرات ارتفاع نصيبه في الاستثمار الكلي .
لقد كانت مشكلة العراق الاقتصادية تتمثل فيما يعتري اقتصاده القومي من اختلالات هيكلية داخلية وخارجية، وكان نتيجة ذلك حدوث عجز خطير في الموازنة العامة للدولة، تعتمد الدولة في تمويله على النظام الريعي (النفط كمصدر رئيسي للتمويل)، هذا فضلا عن تفاقم مشكلة ميزان المدفوعات، وموجات التضخم المتلاحقة، وتضخم مديونية القطاع العام، والاختلالات في هياكل الأسعار.
لذلك تمت صياغة برنامج شامل ومتسع القاعدة للإصلاح الاقتصادي، يتضمن حزمة تضم مجموعة من السياسات الخاصة بإصلاح القطاع العام والسياسات السعرية، وسياسات الاستثمار، وسياسات التجارة الخارجية، والسياسات النقدية والمالية والاجتماعية بهدف التحول إلى اقتصاد اكثر كفاءة يعمل بآليات السوق .
ومن خلال تبني هذه البرنامج الطموح للاصلاح الاقتصادي الذي خطى اولى خطواته في عام 2006، وانتهت مرحلتاه الأولى والثانية بنجاح تمثل في كبح جماح التضخم، وزيادة معدل نمو الناتج القومي، وخفض عجز الموازنة العامة، واستقرار أسعار الصرف، وخفض عبء الدين الخارجي، وزيادة الاحتياطات المتراكمة من النقد الأجنبي لدى البنك المركزي .
وبدأت تتبلور معالم المرحلة الثالثة من الإصلاح الاقتصادي التي تهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة واعلان الحكومة عام 2006 عن تنفيذ عدد من المشروعات العملاقة، ومع هذه المتغيرات والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية ، اصبح المناخ مهيئا لاستصدار تشريعات اكثر ملاءمة من اجل أن تصبح بيئة الأعمال اكثر تشجيعا للاستثمار الخاص ، وخلق جو من المنافسة المتكافئة بين المستثمرين .
جاء إصدار القانون 13 لسنة 2006 بشأن ضمانات وحوافز الاستثمار تلبية للاحتياجات الجديدة لما طرأ على الساحة الاقتصادية من متغيرات، ومن اجل التأكيد على ضمانات وحوافز الاستثمار والتوسع فيها، لدفع معدلات النمو، وتطوير المناطق الأقل نموا، وزيادة فرص العمالة .
والملاحظ أن أحكام هذا القانون لا تخل بالمزايا والإعفاءات الضريبية وغيرها من الضمانات والحوافز المقررة من شركات والمنشآت القائمة وقت العمل به، وتظل هذه الشركات والمنشآت محتفظة بتلك المزايا والإعفاءات والضمانات إلى أن تنتهي المدد الخاصة بها وذلك طبقا للتشريعات والاتفاقيات المستمدة منها .
ومن أهم المزايا التي تضمنها هذا القانون انه قام بتجميع كل الحوافز والإعفاءات في قانون واحد بحيث يسهل على المستثمر تحديد المجالات التي تمكنه من الاستفادة من هذه الحوافز ، كما تضمن القانون حوافز وإعفاءات ضريبية طويلة المدى لتنمية الاستثمار، فضلا عما تضمنه القانون بشان عدم التمييز بين المستثمر المحلي والأجنبي، وهو ما يعد حافزا من حوافز الاستثمار في حد ذاته .
وقد ربط المشرّع الإعفاءات والحوافز بالأنشطة والمجالات التي يحق لمن يزاولها التمتع بالإعفاءات الواردة في القانون، أعطى لمجلس الوزراء الحق في إضافة مجالات أخرى تتطلبها حاجة البلاد.
فبالرغم من أن هذا القانون كان اكثر تحديدا فيما يتعلق بالضمانات والحوافز الممنوحة للاستثمار إلا انه جاء خلوا من بعض المجالات والأنشطة التي تضمنتها القوانين السابقة الأمر الذي ادى إلى صدور عدد من التعديلات المكملة له والتى استهدفت بصورة أساسية إضافة أنشطة ومجالات لتندرج ضمن المجالات المتمتعة بضمانات وحوافز القانون.
وتتمتع بهذه الإعفاءات والضمانات والمزايا التي يقررها هذا القانون جميع الشركات ( قطاع شركات الأموال حاليا ) .
وقد تضمن القانون أيضاً العديد من ضمانات وحوافز الاستثمار التي من أهمها :
1- عدم جواز التأميم أو المصادرة أو فرض الحراسة أو الحجز أو التحفظ أو تجميد الأموال.
2- عدم الخضوع لتسعير المنتجات : على أنه لا تخضع منتجات المشروعات للتسعير الجبري وتحديد الأرباح ، إلا أن المشرع أجاز لمجلس الوزراء في حالات الضرورة أن يستثنى بعض المنتجات الأساسية مسترشدا بالتكلفة الاقتصادية لها ، لتحقيق التوازن بين اعتبارات الربح لمشروعات الاستثمار ، وبين اعتبارات المصلحة العامة للمجتمع .
ولما كانت فكرة التسعير الجبري وتحديد الأرباح يمكن أن تحد من جذب الاستثمار ، لأنها تقيد حركة المستثمر في الإنتاج والبيع، بان وضع قيدا مطلقا على التسعير الجبرى وتحديد الأسعار حتى بالنسبة للمنتجات الأساسية التي كانت تستثنى بشروط في ظل القانون السابق ولم تعد هناك حاجة لهذا الاستثناء وخاصة مع نجاح الدولة في برامجها الإصلاحية والارتفاع النسبى في مستوى الدخل الفردى.
3- حق تملك المنشأة للعقارات والأراضي : على انه يكون للشركات والمنشآت الحق في تملك أراضي البناء والعقارات المبنية اللازمة لمباشرة نشاطها والتوسع فيها أيا كانت جنسية مالكى الشركات أو محال إقامتهم أو نسب مشاركتهم، وذلك بشرط الحصول على موافقة مجلس إدارة هيئة الاستثمار.
أن نمو الاقتصاد اصبح يتوقف على نمو وتعاظم الاستثمار الخاص – خاصة في ظل تقلص الدور الاستثماري للحكومة – الأمر الذي يتطلب تهيئة البيئة التشريعية لدفع الاستثمار الخاص وتوطينه ( قطاعيا وجغرافيا ) على نحو يحقق للاقتصاد القومي اكبر عائد ممكن وأعلى مردود من منظور التنمية الشاملة .
الأمر الذي يتطلب تحقيق بعض الأمور التي من أهمها :
1- تصميم حوافز اكثر ملاءمة للاستثمار ، وتطبيقها بشكل فعال بغرض التأثير على مستوى الاستثمار وهيكلته، وذلك بالعمل على التحليل والتقييم الموضوعي الدقيق للحوافز الضريبية التي تشير إلى استخدام السياسة الضريبية للتأثير على سلوك المستثمرين، وتحفيزهم على اتباع سلوك معين أو نشاط محدد عن طريق منع إعفاءات ضريبية (كليا أو جزئيا) لفترة زمنية معينة، أو السماح بتخفيض قيمة الأصول الرأسمالية للاغراض الضريبية بشكل اسرع من إمكانية التخفيض في ظل القواعد المحاسبية المتعارف عليها (الاهلاك المعجل) أو المعدلات التمييزية للضرائب … الخ ، وهذا التنوع في الحوافز الضريبية يؤكد الأهمية في اختيار افضل البدائل عن طريق تحليل آثار البدائل المطروحة وتقييمها ، وحساب المعدل الضريبي الحدي الفعال وتحليل تكاليف وعوائد الحوافز الضريبية. وترجع أهمية ذلك الى توفير نتيجة مفيدة لصانع القرار في اختيار افضل البدائل.
2- ضرورة شمول القانون لكافة الحوافز والمزايا والضمانات الممنوحة في كافة القطاعات.
3- ربط حوافز الاستثمار بقضية التصدير ، فبالاضافة إلى حوافز الاستثمار يجب أن تعطي حوافز التصدير ويمكن في هذا الصدد أن تدرج نسب التخفيضات الضريبية التي تتمتع بها المشروعات حسب النشاط التصديري لهذا المشروعات .
4- أهمية سريان الإعفاءات والمزايا الممنوحة على التوسعات في المشروعات ، طالما كانت هناك إضافة في الأصول الرأسمالية الثابته.
5- وضع معايير واضحة للتمتع بالإعفاءات المنصوص عليها في القانون، مثل تحديد نسبة معينة من المكون المحلي للمنتج أو العمالة .. .
*دكتوراه في القانون العام- الفرع الاداري
متخصص في القوانين الاستثمارية وحماية المستهلك