جو النعسان والحالمون بترامب
بقلم سعد البدري|..
تُعرف الاستراتيجية الشاملة بأنها استخدام الموارد والقدرات والامكانيات لتحقيق أهداف الامن القومي للدولة،ومن أهم اهداف الاستراتيجية الشاملة في الولايات المتحدة تعزيز التفوق الأمريكي ودعم الحلفاء الاستراتيجيين، وكما هو معلوم في علم السياسة فإن الأهداف ثابتة إلا ان طرق تحقيقها يرتبط بخطط مختلفة يتوفر فيها عامل الحركة والتكيُف والتغيير.
في مثل هذه الأيام قبل أربعة أعوام، كان الجميع في الشرق الأوسط يعتقد جازماً ان الحلم الإيراني بعودة الاتفاق النووي أصبح في المتناول بعد فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن في سباق الانتخابات الامريكية، فالاتفاق كان المنجز الأبرز للديمقراطيين بقيادة باراك أوباما، وكانت التقارير تتحدث حينها عن أسابيع تفصل إيران عن امتلاك المواد اللازمة لصناعة قنبلة نووية، كما ان حملة تعيينات الرئيس الامريكي الجديد حينها شملت أشخاصاً مقربين للوبي الإيراني أو كانوا جزءاً من فريق التفاوض النووي، لكن وخلافاً لكل المعطيات والتوقعات لم يعد أحد الى الاتفاق النووي، وأصبح عملياً في ادراج النسيان لغاية وقت كتابة هذا المقال.
سقت هذه المقدمة للتأكيد على ان ما نراه من المسلمات في تحليلاتنا وافكارنا السياسية هو ليس كذلك في السياسة الامريكية، فنحن في الشرق ننحاز بطبيعة نشأتنا الى فكرة ومنهج القائد الفرد ولا ندرك فكرة ومنهج المؤسسة الحاكمة في الدول المتقدمة وخاصة الولايات المتحدة.
حسم الامر وفاز دونالد ترامب بالانتخابات الامريكية ليصبح الرئيس السابع والاربعون، ومع هذا الفوز بدأ الكثير من المحللين والسياسيين في منطقتنا بإطلاق العنان لتصوراتهم في رسم السياسة (الترامبية) القادمة منطلقين من معرفتهم بشخصية الرئيس التي اظهرها خلال فترة حكمه الأولى، تلك التصورات التي تمتد في أفقها لتشمل حتى عامة الناس، لكنها لا تؤخذ حجم وكم المتغيرات التي حدثت خلال السنوات الأربعة الماضية، فعلى المستوى الشخصي أصبح دونالد ترامب أكثر اتزاناً في تعاطيه مع القرارات والمواقف ولم يعد ذات الشخص المندفع، ويظهر ذلك من خلال اختياره لفريق عمله المحيط به واقصاءه للكثير ممن عملوا معه سابقاً، وكذلك تعاطيه مع وسائل الاعلام وطبيعة تصريحاته. أما على المستوى الوضع الدولي، فالعالم يشهد حروباً متداخلة تبدأ من مضيق باب المندب ولا تنتهي عند حدود كورسك.
ليس خافياً ان الكثيرين في الشرق الأوسط يرون في دونالد ترامب الرئيس الذي سيقضي لهم على تهديد إيران ونفوذها، وهو طموحٌ لا يخفيه ترامب نفسه، لأنه أعلن أكثر من مرة بأن هدفه الأول والأهم في الملف طهران هو القضاء على أذرعها ووقف برنامجها النووي واعادتها للتصرف كدولة طبيعية ضمن حدودها الجغرافية. لكننا إذا ما قارنا تصريحاته بالواقع الحالي سنرى ان الاحداث قد تجاوزتها، فإسرائيل المنغمسةً بحرب مباشرة مع الاذرع الإيرانية منذ أكثر من عام، حَيدت الى حدٍ كبير حركة حماس في غزة وجلسات التفاوض لتشكيل الإدارة المحلية القادمة هناك بدأت في القاهرة، واعادت بعد حرب خاطفة في لبنان حزب الله الى شمال الليطاني بعد أن حدت من قدراته وقضت على جل قيادات الصف الأول والثاني فيه. أما فصائل المعارضة السورية فقد اسقطت نظام الأسد في دمشق، وقسمت منطقة الهلال الشيعي الى جزئين منفصلين غير مترابطين، كل ذلك حصل ويحصل في ظل إدارة الرئيس جو بايدن وخلال أيامه حكمه الأخيرة، ومع بقاء أكثر من شهر لتولي دونالد ترامب لزمام الأمور في البيت الأبيض قد تشهد المنطقة معارك أو تسويات أخرى تؤثر بشكل كبير على ما تبقى لإيران من نفوذ في المنطقة سواءً كانت في العراق أو اليمن، عبر أطراف خارجية قادرة على التأثير في تلك الجغرافية كالسعودية أو الامارات أو أخرى داخلية كبعض الأحزاب السياسية الحاكمة والفواعل الشعبية في بغداد والحكومة الشرعية في عدن، ان أهم ما يطمح اليه الديمقراطيون في سباقهم مع الوقتهو رسم خارطة الشرق الأوسط الجديدة وإعادة تشكيله بالقوة قبل نهاية حكم جو بايدن، وليس أدل على ذلك من إطلاقها يد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الساحة السورية رغم علاقتها المتوترة معه.
إن عملية إعادة تشكيل الشرق الأوسط وانهاء النفوذ الإيراني إضافة الى تقليص الدور الروسي في سوريا ستشكل مجتمعةً بيئة ملائمة للرئيس الامريكيالقادم دونالد ترامب من أجل المضي في مشروع الانكفاء الى الداخل وإعادة صياغة العلاقة مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدوليةبما يضمن تحقيقأهداف الاستراتيجية الامريكية في تعزيز القوة الذاتية ودعم الحلفاء الآسيوي ينفي الصراع مع الصين، أضف الى ذلك العودة الى تطبيق سياسة الضغط الأقصى على ايران من أجل التأثير على الموقف التفاوضي في الملف النووي وكذلك على الداخل الإيراني في ظل التغيرات الحاصلة.
يمكن القول ان جو بايدن (النعسان) حقق في أيامه الأخيرة للشرقيين الذين يرون في ايران الخطر الأكبر كثيراً مما كانوا يأملونه في المستقبل من دونالد ترامب، وذلك ما أدى الى غياب المساجلات فيما يمكن لترامب فعله في المستقبل ليس عالمياً بل على مستوى الشرق الأوسط.