العُنف السائل
بقلم حسيني الاطرقجي |…
سياسيا، ظهرت في القرن العشرين تسمية “القوة الصلبة” لداريل كوبلاند وهي تشبيه سياسي للسلطات الحاكمة ذات القوى العسكرية والتي تمتاز بالاستبداد والسلطوية، تلاها ظهور استراتيجية اخرى ابان انهيار الاتحاد السوفيتي انعكست في مصطلح سياسي “القوة الناعمة” التي مثلت توظيف الدبلوماسية والدعاية والاعلام “البروباغاندا” في ضرب الخصوم وتفكيك قواعدهم الجماهيرية والتحالفات، اذ وصفها جوزيف ناي بهذا الوصف كونها عير مُستشعرة وتنساب بصورة هلامية شبحية، وقد مثلت القوة الناعمة تاثيرا كبيرا كونها اعتمدت بالدرجة على حل المجتمعات واعادة تركيبها بعيدا عن قيمها الاساس، وهذا الامر مهد في الوقت الحالي الى ظهور وتاسيس “القوة السائلة” كما اسماها عالم الاجتماع السياسي زيغمونت باومان، وعدها بأنها القوة الاخطر بتاريخ الشعوب.
إقتصاديا، وليس بمعزل عن السياسة، وبسياق “ناعم وسائل” بصورته الاقتصادية هذه المرة.. عمل شيطان الاقتصاد الامريكي ميلتون فريدمان على تاسيس ما اسماه صبيان شيكاغو أو نظرية “الحرية المطلقة للسوق” وقد إقترحت هذه النظرية على تاسيس للقطاع الخاص الرأسمالي اي خصخصة الاقتصاد وحصره برجال الاعمال والشركات الكبرى غير الحكومية ودعمها بابشع وسيلة من خلال الغاء كافة القيود القانونية والاخلاقيات العامة واطلاقها كوحش اقتصادي مفترس تجاه المنطقة والعالم، حتى باتت هذه الشركات هي من يقرر اسقاط الدول وتاسيس الحركات الانفصالية فيها أو غزوها عسكريا بأي صورة كانت تحقيقا واشباعا للرأسمالية العالمية، ومن الامثلة على ذلك عمليات الاطاحة بالدول مثل الارجنتين وتشيلي وبنما وافغانستان والعراق، الامر الذي خلف موجات عنف كبيرة أو أسس لعنف يراعي ويخدم المصالح الرأسمالية.
إجتماعيا، ولعل هذا هو الاخطر عصفت الثقافة السائلة التي رافقت العولمة بالمجتمعات وتحديدا تلك التي عانت من الهشاشة السياسية والتعثر الاقتصادي، إذ ان المجتمعات هذه تميل الى الثقافة المستوردة ظنا منها انها ستعوض ما فاتها وتواكب العالم المُتقدم ولهذه الثقافة تمظهرات عدة منها؛ الازمنة السائلة، والحب السائل والهشاشة في العلاقات الروحية والاسرية، وهذه العناصر السائلة هي في حالة تغير دائم “ميوعة” لا يمكن السيطرة عليها لذلك من السهل ان يشوبها العنف ويتحرك معها بزوايا حياتية للمجتمع، الامر الذي دق ناقوس الخطر عالميا لاختلاط العنف بمفاهيم الحياة وانصهارها في التعامل اليومي والسلوك البشري.
في العراق تحديدا بعد العام 2003، كان الانتقال المفاجيء والعسكري للسلطة قد أحدث اضطرابات مجتمعية وصدمات خلخلت بُنية المجتمع العراقي، وقسمته الى مكونات وجماهير منتزعة منه صفة الشعب الواحد، مما أذكى ثقافة “الحصانة والاحتماء” والانغلاق الطيفي، الامر الذي أدى الى ظهور طبقات من أمراء الحروب وتجار الأزمات، الذين ارتبط مصيرهم طرديا بمدى الازمات والعنف الذي يكابده المجتمع، اذ أن الاستقرار أصبح عدوهم الأكبر والمُهدد الاساس لتجارة الازمة، هذه الطبقات اكسبت نفسها مشروعية دينية وسياسية من خلال انصهارهم مع القوى الاكبر في العملية السياسية، واستخدمت العنف والمطبات الامنية، حتى باتت الظاهرة العنيفة ظاهرة غير مستهجنة او مرفوضة لكثرة ما اعتاد المجتمع عليها، وقياس الخطر الكبير ان العنف السائل في العراق محمي من مافيات أمراء الحروب التي حافظت على سيولة العنف لمرورخ بكافة القنوات والممرات الاجتماعية، والتحدي الاكبر أمام من يتصدى للعنف انه في صدام مباشر مع القوى العنيفة التي تتحرك كجرافة غير قابلة للإقاف.