احتجاجات تشرين.. ولادة جديدة للولاء وإنهاء مرحلة الإحباط التام
بقلم الدكتور محمد العبدلي |..
قبل عام ٢٠١٩، كثيراً ما كان يوجه اللوم للشعب العراقي، ويصفوه بالخضوع والخنوع لفساد السلطة وإجرامها، خاصة عند مقارنته بالشعوب المنتفضة ضد حكامها كالجزائر ومصر، وأحياناً نحن من نتبنّى ذلك اللوم لنجلد ذاتنا لعدم وجود موقف واضح وصريح يصرخ بوجه الطبقة الفاسدة، حتى انحدر الوعي السياسي لدى الشباب الى ادنى مستوياته للإحباط واليأس من الوقوف بوجه تلك الطبقة الضالة.
فكانت احتجاجات تشرين الشرارة ونقطة الإنطلاق في إعادة الروح والثقة، بل كانت المنعطف لانتقال الولاء من الهوية الفرعية إلى الهوية الوطنية، وإنتهاء حالة اليأس والخضوع التام لفساد السلطة وإجرامها، شارك فيها جزء كبير من الشعب في مناطق الوسط والجنوب، علنوا خلالها عن بدء وعي شعبي وخطاب وطني موحد مطالب بوطن يحفظ كرامة شعبه وبدولة لها سيادة كاملة ورفض الظلم والفساد والمحاصصة، وعززت الرقابة الشعبية، واجبرت القوى السياسة على اعادة حساباتها وتقديم تنازلات لم يتكمن المجتمع الدولي بكل إغراءاته وضغوطاته ان يحقق ولو جزء بسيط منها، واعادت الاعتبار للهوية الوطنية والولاء الوطن بعد كانت اغلب القوى السياسية تتمرس في حدود هويات ضيقة تصادر الهوية الوطنية وتتمادى في اعلان ولاءها وتبعيتها لهذا الطرف الإقليمي او ذاك.
ولا وصف أدق من وصف المرجعية الداعم لاحتجاجات تشرين والناقم على أحزاب السلطة بقولها (إن المواطنين لم يخرجوا الى المظاهرات المطالبة بالإصلاح بهذه الصورة غير المسبوقة ولم يستمروا عليها طوال هذه المدة بكل ما تطلّب ذلك من ثمن فادح وتضحيات جسيمة، إلاّ لأنهم لم يجدوا غيرها طريقاً للخلاص من الفساد المتفاقم يوماً بعد يوم، والخراب المستشري على جميع الأصعدة، بتوافق القوى الحاكمة ـ من مختلف المكونات ـ على جعل الوطن مغانم يتقاسمونها فيما بينهم وتغاضي بعضهم عن فساد البعض الآخر، حتى بلغ الأمر حدوداُ لا تطاق، واصبح من المتعذر على نسبة كبيرة من المواطنين الحصول على أدنى مستلزمات العيش الكريم بالرغم من الموارد المالية الوافية للبلد).
حققت احتجاجات تشرين عدة اهداف عجزت عن تحقيقها سابقاتها، فهي تمثل الاحتجاجات الأطول مدة في استمراريتها التي شهدها العراق منذ تأسيس دولته، شارك فيها جزء كبير من الشعب في مناطق الوسط والجنوب، علنوا خلالها عن بدء وعي شعبي وخطاب وطني موحد مطالب بوطن يحفظ كرامة شعبه وبدولة لها سيادة كاملة ورفض الظلم والفساد والمحاصصة، ونجح المحتجون بفضح وتعرية أحزاب السلطة وأعادت الثقة للجماهير بالقدرة على قلب الموازين على الاحزاب، وفتحت الأبواب لاحتجاجات مستقبلية مع كل اخفاق او تجاوز على الحقوق، خاصة وأن الاحزاب التقليدية لازالت متمسكة بذات النهج السابق بتشكيل حكومة توافق للإفادة من وزارتها الاحزاب مقابل التنصل من مسؤولية إخفاقاتها في ظل استمرار التراجع في الخدمات وانتشار الفساد المالي والاداري مع ضعف الدولة في معالجة ذلك، وبالتالي فإن عودة الاحتجاجات واردة في أي لحظة.
وهناك من يرى أن دور الاحتجاجات قد انتهى بمشاركة شخصيات من رحم التظاهرات في الانتخابات أو بتشكيلهم لأحزاب سياسية جديدة، وهو بذلك يجانب الصواب، فلا يمكن أن نختزل الاحتجاجات الشعبية بحزب سياسي ناشئ أو ممارسة ديمقراطية كالانتخابات، وليس من المنطق أيضاً القول بفشل الاحتجاجات بحجة أنها لم تقدم حلاً بديلاً عن الأحزاب التقليدية، فهي ليست معنية بتقديم الحلول ولا بتشكيل أحزاب جديدة أو ترشيح شخصيات جديدة للانتخابات، بل ان غايتها المطالبة بوطن يحفظ كرامة شعبه وبدولة لها سيادة كاملة الإعلان الصريح عن رفض الظلم والفساد والمحاصصة، وعلى من يتصدى للسلطة إيجاد المعالجات الحقيقية لكل ذلك.