أنقذوا الشعر

حسان الحديثي

النقدُ قضاءٌ، والناقدُ قاض، والنقودُ (جمع نقد) أحكامٌ، وكلاهما -القاضي والناقد- في ذات المجلس وعلى نفس الكرسي؛ غير ان القاضي يُطاع بحكمه بالأخد والمنع، والناقد يُسمع منه فإما ان يُطاع قولُه او يُترك فقول الناقد مرهون بصدقه اولاً، ثم بيقين السامع والمتلقي ثانياً.

وللناقد ان يُسمع وليس له ان يطاع وليس على من يسمعه في حكمه من أمر او غصب لكن الاصل ان كليهما -القاضي والناقد- مؤتمنان على قول الصدق بلا ميول او محاباة او تفضيل لأجل حب او طمع او قرابة او اي امر اخر غير حسن القول وقوته وأثره في الناس وقد ذكر ذلك د. زكي مبارك في كتابه الموازنة بين الشعراء فقال:

فإذا أردت أن توازن بين شاعرين فامتحن نفسك قبل ذلك، فإن رأيت في نفسك الميل لتفضيل أحدهما على الآخر لسبب لا تسيطر عليه الحاسة الفنية، فاعلم أنك في ترجيحك متهم ظنين، وإن رأيت نصرة الأدب والحق تغلب على جميع ما لك من النوازع، وآنست في نفسك القدرة على مقاومة ما يعترضك من التقاليد -ولعالم الأدب أيضًا رسوم وتقاليد- فتقدم إلى الموازنة وثق أن الرغبة في نصرة الحق حليفة الفوز المبين. ” انتهى قول د. زكي مبارك”

وقد اعجبني وصفه للنقد وتعريفه واطلاقه عليه اسم “الموازنة” وهذا اقرب للتصنيف وقد سبقه بذلك بزمن من صنف ووازن ومن ذلك كتاب طبقات فحول الشعراء لمحمد ابن سلام الجمحي ثم لحقه بذات الاسم محمد ابن المعتز العباسي بكتابه الشهير طبقات الشعراء وكلاهما صنف الشعراء الى مراتب وطبقات اعتمدا فيها على الموازنة بين الشعراء في العصر وحسن الشعر والادب. ثم اتى بعدهما اجيال من النقاد ممن صنف ورتب وقدم وأخر حتى كتبت في ذلك مؤلفات كثيرة ودراسات وبحوث لا حصر لها ولا عد.

وسيبقى قول الصدق ناقصاً حتى يكتمل بالعلم، لاجل ذلك يشترط بالناقد ان يكون عالماً بالفن الذي يحكم فيه فان كان في الأدب وجب عليه ان يكون اديبا حافظاً لاقوال الغابرين والمعاصرين من الأدباء والشعراء واقفاً على معانيهم وقصصهم وحروبهم الأدبية ومعاركهم الشعرية كي لا تختلط عليه الأقوال ولا تفوت عليه السرقات ويعلم الشعر والشاعر فلا يتوهم في نسبة النصوص الى قائليها فيكون حكمه على القول بجهالة او قلة دراية ولا يضير الناقد حبه -فيمن او ما ينظر- ما دام الحكم متعلقاً بالقول لا بالقائل، فقد كان ابن جني تلميذاً للمتنبي محباً له مأخوذاً باستاذه مولعاً بأدبه وعبقريته وشعره وربما ابتدأ قوله في شرحه بالتبجيل والتفخيم للمتنبي كقوله (قال ولله دره من قائل) ولا بأس في ذلك مالم يكن في غير حقه ومحله.

ونقد الشعر والاحتكام فيه الى اهل العلم والمعرفة قديم فقد كان يضرب للنابغة الذبياني قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ فيأتيه الشعراء من كل فج لتُعرض عليه الاشعار فيحكم لهذا ويفضل ذاك وليس من بعد قوله قول لعلمه بالشعر وفقهه بالقول وما جعله في منزلته تلك انه عالم بالشعر وقد روي عن أبي عبيدة قوله: ان من فضّل النابغة على جميع الشعراء هو أنه كان أوضحهم كلاماً وأقلهم سقطاً وحشواً، وأجودهم مقاطع، وأحسنهم مطالع ولشعره ديباجة لا تشبهها ديباجة لكن ذلك كله لم يكن ليجعله على كرسيه حتى عرف عنه انه حكم عادل يحكم بالقسط بلا انحياز لعاطفة او طمع او رحم.

وقد تغير جل ذلك في العصور المتاخرة حتى وصلنا الى عصر أمسى فيه النقد -في كثير من ضروبه- مهنةً يُتكسب منها وسلعةً تباع وتشترى فيُرجّح مَنْ يزيد العطاء، ويُبجّل من له حظوة ومنصب وجاه، حتى رُفع بعض مَنْ رُفع لمحاباة بلد على بلد، وسياسة على سياسة، بل ومذهب على مذهب، وفاز من دفع فاجزل واشترى اصوات المصوتين.

واكثر الامور ايلاماً ووجعاً في هذا الفن الرفيع انه استحال الحكم فيه من اهل العلم والدراية والمعرفة الى عامة الناس فكان للجاهل ممن لا يفرق بين بيت الشِعْر من بيت الشَعَر صوت كما للعارف العالم الفاهم، وصارت لمن لا يستقيم على لسانه وزن ولا يحسن قراءة قصيدة كلمة كما للاديب المدرك الفطن.

ولعل هناك مَن تُوج اميراً للشعر بعدد الأصوات التي اشتراها لا بحسن ما قدّم وجيد ما كتب، واكثر ما يبعث على التهكم والضحك ان ترى شاعراً قد اشترك بمسابقة يستجدي اصوات المرشحين؛ فتراه يسال هذا ويرتجي ذاك عله يحصل على صوت وترشيح يقدمه خطوة او يرفعه مرتبة، ولقد راينا بام اعيننا كيف أبعِد شعراء رائعون وقُدّم عليهم من هو دونهم بالشعر في مسابقات اقرب للتجارة منها للادب، بل ورأينا احدَهم وهو يُرفع اميرا يتبختر بعباءته قد امسى بلا ذكر بين الشعراء وقد غاب اسمه وافل نجمه ولم نعد نسمع له شيئا فكيف قال ما قال؟ ومن اين اتى بما اتى؟
الشعر ضرغام كاسر والزمن غربال اصم، والاحمق من وضع نفسه بينهما.

لقد استفحل الامر حتى فقد الناس الثقة باي لقب واعترى الشك كل المهرجانات والمحافل وامست اسواق الشعر اسواقا للبيع والشراء بعد ان كانت تسويقا لكل حسن جميل، وغدت المنافسة مبنية على الجنسية والقومية والدين والمذهبية بعد ان كانت تبنى على العلم والبيان والبلاغة والمنطق واللسان.

واني على يقين ان من يسافر للمشاركة في مسابقات اليوم انما يركب جناح الامل لا متن العمل، بل اني اجزم ان جل من يسافر انما يسافر لامرين: اولهما النزهة والسياحة وهي النوال الاكبر ، وثانيهما الأمل بضربة حظ تعيده لبلاده برزمة مال تعينه على الحياة.

وكلا الامرين طيب جائز لا غضاضة فيه سيما بعد ان فقدت الثقة بالاحكام واليقين بالعدل.
والعلة في اسماء المنافسات لا في اصل التنافس والعيب في عناوين المسابقات لا في كنه السباق.

فابعدوا عن الشعر -رحمكم الله- هذه الاسماء وانقذوا الشعر من التهكم والاستهزاء وجنبوه كلمات الانتقاص والحط والازدراء.

 

منقول من صفحته الشخصية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار