احترام الوقت في كوريا الجنوبية.. سرّ النجاح الصامت

بقلم: سارة سهيل عبد الجبار
حين تزور كوريا الجنوبية أول ما يلفت انتباهك ليس ناطحات السحاب العملاقة بل أسلوب الحياة المنظم الذي يسير بدقة تكاد تشبه عقارب الساعة، فالوقت في الثقافة الكورية ليس مجرد وسيلة لتنظيم اليوم بل هو قيمة اجتماعية وأخلاقية تعبّر عن احترام الذات والآخرين معًا.

يُعدّ التأخير عن المواعيد في المجتمع الكوري تصرّفًا غير لائق سواء في العمل أو الدراسة أو حتى اللقاءات الاجتماعية، لذا يُربّى الأطفال منذ الصغر على قاعدة: “احترام الوقت يعني احترام الإنسان”، وعليه تُعدّ الدقة في المواعيد أحد المقاييس الرئيسة لتقييم الالتزام والمسؤولية الشخصية، وهذا الانضباط لم يأتِ من فراغ بل هو نتاج عقود من التربية والتعليم والثقافة الجماعية، فبعد الحرب الكورية في خمسينيات القرن العشرين أدرك الشعب أن البناء لا يقوم على المال فقط بل على الإنضباط الزمني والإنتاجي، ومن هناك أصبح احترام الوقت جزءً من الهوية الكورية الحديثة، وركيزة أساسية في نهضتها الاقتصادية.
تبدأ الاجتماعات في بيئة العمل في وقتها تمامًا وتنتهي كما هو محدد، ولا يُبرَّر التأخير حتى بدقائق، وحتى في المواصلات العامة يكاد لا يُسجَّل تأخير للحافلات أو القطارات فالنظام الزمني هناك أشبه بمعادلة دقيقة لا تقبل الخطأ، هذه الدقة جعلت من كوريا الجنوبية واحدة من أكثر الدول كفاءة في الأداء والإنتاج، ولأن المجتمع الكوري يقوم على العمل الجماعي، فإن احترام الوقت يُنظر إليه نوعًا من الاحترام الجماعي أيضًا فالتأخير الفردي يُعدّ إخلالًا بالنظام العام، لذلك يتعلم الناس منذ الصغر أن الالتزام بالمواعيد ليس مسألة شخصية بل هو مسؤولية اجتماعية، ورغم أن هذا الإنضباط الصارم الذي يُشعر البعض بالضغط أحيانًا إلا أنه ساعد الكوريين على بناء مجتمع متماسك يحترم النظام ويقدّر قيمة كل لحظة، لقد تحوّل الوقت لديهم من مجرد ساعات تمضي إلى مورد وطني لا يقل أهمية عن المال أو الطاقة.
إن تجربة كوريا الجنوبية تذكّرنا بأن الأمم لا تتقدّم بالسرعة أو الذكاء فقط بل بالقدرة على احترام الزمن وتنظيمه، فحين يُصبح الوقت قيمة مجتمعية يتحول المجتمع كله إلى ساعة تعمل بدقة نحو المستقبل.



