نكتب أم نستعير؟ تعريب الدراما التركية .. تهجين للنص العربي

بقلم .. ناصر طه /..

فيما تزدحم الشاشات الدرامية العربية بنسخ معربة هجينة عن الدراما التركية ، ينتصر السؤال التالي: ما الذي لم نكتبه بعد على السؤال التقليدي النمطي : ما الجديد؟

ظاهرة تعريب المسلسلات التركية وغزوها الفضائيات والمنصات العربية لم تعد حالة عابرة ، أو خيارا إنتاجيا تجريبيا يتم من خلاله امتحان ذائقة المشاهد العربي. لا… لقد تحوّلت إلى نمط سائد ، يتعكّز على لغة مستعارة ، ويلبس قناعا بملامح ثقافية مشوشة إن لم نق مشوهة، يسعى من يتبناها بعناد أهوج ليفرضها علينا كصورة عربية لا تشبهنا إلا من الخارج. وحتى هذا الخارج يبدو ، في كثير من الأحيان ، كعمليات البوتوكس التي تغيّر ملامح الإنسان بحجة التجميل.

هنا ، نجد أنفسنا كمن أُلقي في مساحة رمادية ، يتقاسمها ما نقتبسه استنساخا بلا إبداع ، وما نهمله من قدراتنا على إنتاج الأصالة وتبيّنها. في قلب هذا الواقع الذي نعيشه ، تتكشف أزمة أعمق من مجرد حصرها في البحث عن قصة ناجحة … بل تفضح فينا حقيقة فقدان جرأتنا على الحفر في الواقع العربي لاستخراج دراما تخصنا ، تحاورنا ، وتعبر عنا ، دون استعارة أو اقتباس أو استنساخ سطحي ، تسميه فهلوتنا الأكاديمية “تناصا”.

هذا الاستيراد الدرامي ، دون ضوابط ، يصبح عادة إنتاجية خطيرة ومؤلمة ، لأنه يهمل بقصدية… الحاجة الماسة إلى الكاتب المبدع ، بل يهزمه في مواجهة غير أخلاقية مع ذلك الذي يلعب دور المكيّف ، أو المترجم ، أو الناقل الذي لا يحتاج إلى جهد إبداعي في نقله أو سرقة نص تركي محكم البناء بهوية كاتبه المبدع في وطنه. فكل ما يحتاجه الناقل هذا هو أن “يُلهجن” النص عربيا — وفي الغالب سوريا — مع تغيير طفيف في بعض مواقع التصوير ، ثم بعد ذلك تقوم المنصّات بمنحه تأشيرة الدخول ، وفرضه على وجدان المتفرج الذي لا يجد خيارات درامية أصيلة مناسبة أخرى يلجأ إليها.

يتناسى الاستنساخيون هؤلاء أن القصة ليست ما يُروى ، بل كيف ولماذا تُروى. وهكذا ، تتحوّل الحكاية من أداة لتفكيك الواقع إلى وسيلة للهروب منه ، ومن مرآة للذات إلى واجهة مستعارة لبريق الآخر ، بهويته التي تختلف في بريقها عن هويتنا.

يتحجّج “التعريبيون” بالقول إن النص العربي عاجز بطبعه؟ لكن الواقع أكثر قسوة من ذلك…. وما ينتج اليوم من دراما عربية لا يعاني من ضعف في الموهبة فحسب ، بل من مرض في البنية الإبداعية ، والتعبيرية ، والإنتاجية على حدّ سواء.

لكن الحقيقة التي يتجاهلونها تكشف عن رفضهم للنص الذي يقدّمه الكاتب الجريء ، بل يسعون لإقصائه بكل الطرق لصالح سيناريو معرّب يرونه “مضمون” الانتشار جماهيريا ، خصوصا بعد موجة تدجين الذائقة العربية ، الذي تم بغزو تعريبي مخطّط له.

هؤلاء يعدّون المغامرة تهديدًا لرأس المال ، بينما يمنحون الأولوية لنص أجنبي مجرّب في سوق أخرى ، فقط لأنه “نجح هناك”. وهكذا ، تتكرّس صناعة درامية لا تؤمن بالمخاطرة ، ولا ترى في الحكاية المحلية قيمة درامية تليق بالمشاهد العربي.

وفي هذا الخضم ، لا تستنسخ القصص فقط ، بل تستنسخ الروح. النبرة التركية ، الإيقاع التركي ، والتمرّد التركي “المعلّب” على التقاليد. كل ذلك يعاد تصديره إلينا ، مغلفا بنجوم عرب “غيّرت ملامحهم عمليات التجميل التي لا ضابط لها” ، وسط فراغ شعوري وثقافي واضح.

النتيجة؟ دراما بلا هوية ، بلا جغرافيا ، وأحيانا كثيرة بلا منطق. نشاهد أبطالا عربا يعيشون في فراغ اجتماعي ، بلا صراعات تخصّ مجتمعاتهم ، وكأنهم ضيوف في سرد لا يعرفهم ، ولا يمثّل واقعهم من قريب أو بعيد. إنهم ببساطة: أتراك يتحدثون العربية، لا أكثر. بل أن بعض جهات الإنتاج التعريبية صارت تفرض على الكاتب العربي أن يقلد الدراما التركية لتكون جواز سفره الجديد للسفر الدرامي عبر شاشاتها.

قد نبدو قساة في هذه السطور ، لكننا لا ننكر أن للتعريب ” في بعض وجوهه ” فرصة تعليمية مؤقتة ، ومحطة لمراجعة البنية الدرامية التي طالما كانت أسيرة للنمطية ، والأحادية ، والقصص المحنطة.

لكن ، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون هذا التعريب هو وجهتنا النهائية ، ولا يجب أن يكون قاربنا الوحيد لعبور الأزمة.
لا بأس أن نعرّب بعض النصوص ، لكن من العار أن نتوقف عن الكتابة ، انتظارا لموسم الاستنساخ القادم.

الدراما ، في جوهرها ، ليست صورة وموسيقى وملابس أنيقة وخيانات زوجية لا تنتهي… بل هي موقف حضاري ، واختبار جريء دائم لقدرتنا على فهم ذواتنا ، وإعادة سردها بعمق ، وذكاء ، وباللغة التي تمثّلنا بحق.

وما لم نمتلك هذه الجرأة ، فسنظل نبحث عن أنفسنا في مرايا الآخرين ، ونظل ” كما نحن الآن ” مجرد “مستهلكين جيدين”، نجترّ الحكايات ولا نصنعها.

لتكن سطورنا هذه بابا يفتح للنقاش الصريح ، الذي يقود إلى دراما حقيقية تمثلنا ، وتعكس من نحن حقّا! لا دراما تُمثل علينا… وتخدعنا.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار