القرار الاستراتيجي للصدر: إنهاء المشاركة السياسية لمواجهة الفساد العميق

بقلم/ الكاتب والأكاديمي خالد الغريباوي
في خطوة تحمل أبعادًا استراتيجية عميقة، أعلن السيد مقتدى الصدر انسحابه من العملية الانتخابية المقبلة، داعيًا أنصاره إلى مقاطعة التصويت والترشح، مؤكدًا أن الاستمرار في هذه العملية يعد “إعانة على الإثم”. لم يكن هذا الموقف مجرد قرار سياسي مرحلي، بل هو جزء من رؤية إصلاحية تسعى إلى مواجهة الفساد العميق الذي ينخر في جسد الدولة العراقية. فالصدر يدرك أن الانتخابات في شكلها الحالي ليست إلا أداة لإعادة إنتاج الطبقة السياسية نفسها، تلك التي وضعت المصالح الحزبية والطائفية فوق مصلحة العراق وشعبه.
يمثل هذا القرار قطيعة مع الفساد الانتخابي الذي أصبح جزءًا من النظام السياسي، حيث باتت العملية الديمقراطية وسيلة للوصول إلى السلطة لا لتحقيق الإصلاح. القوى السياسية المتجذرة في الدولة تعتمد على مشاركة التيار الصدري لجذب الناخبين وتحقيق شرعية شعبية، لكن انسحابه يخلق فراغًا انتخابيًا كبيرًا يضعف شرعية البرلمان القادم، ويفرض تحديات كبيرة على الأحزاب التقليدية التي تستغل هذه الانتخابات للحفاظ على وجودها. إن خروج الصدر من المشهد الانتخابي لا يعني الانسحاب من التأثير السياسي، بل هو إعادة تموضع استراتيجي يهدف إلى إعادة هيكلة التيار الوطني الشيعي بعيدًا عن التلوث السياسي، بحيث يكون قوة رقابية تراقب الأداء الحكومي بدلًا من أن يكون جزءًا من النظام الفاسد.
هذا القرار أيضًا يشكل تحديًا مباشرًا لما يُعرف بالدولة العميقة، التي تستخدم الانتخابات كأداة للحفاظ على نفوذها، كما يربط الصدر بين الفساد الداخلي والهيمنة الخارجية، معتبرًا أن العراق يعاني من تدخلات تعزز الانقسامات وتضعف قراره الوطني. من خلال الانسحاب، يسعى إلى نزع الغطاء الشعبي عن الطبقة السياسية المرتبطة بالخارج، مما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل التوازنات الداخلية ويجعل الأحزاب المهيمنة في مأزق سياسي حقيقي.
إن هذا القرار سيزيد من عزل القوى السياسية التقليدية عن الجماهير، حيث كانت تستغل الانتخابات كوسيلة لتجديد شرعيتها وإعادة إنتاج وجودها السياسي، لكنها اليوم تجد نفسها في أزمة حقيقية مع تراجع الثقة الشعبية بها وغياب أحد أهم التيارات الجماهيرية عن العملية الانتخابية. لقد أصبحت الانتخابات، وفق هذا السياق، غير قادرة على أن تكون الأداة الفاعلة في تجديد الشرعية لهذه القوى، مما يضعها أمام اختبار صعب في كيفية البقاء داخل المشهد السياسي دون غطاء شعبي حقيقي.
التداعيات المحتملة لهذا القرار ستكون كبيرة، فمن المتوقع أن تضعف شرعية الانتخابات المقبلة بسبب غياب قاعدة شعبية كبيرة مثل التيار الصدري، كما أن الأحزاب التقليدية ستواجه إرباكًا شديدًا نتيجة غياب أحد أبرز اللاعبين السياسيين. هذا قد يفتح الباب أمام موجة احتجاجات جديدة إذا ما ازداد الشعور الشعبي بأن النظام السياسي بات معزولًا عن الإرادة الجماهيرية. في النهاية، لا يمكن النظر إلى هذا القرار إلا باعتباره تحولًا استراتيجيًا يرسم ملامح مرحلة جديدة في السياسة العراقية، حيث يصبح التأثير الشعبي أكثر فعالية من المشاركة الشكلية في منظومة فاسدة.