عشرون عاما بعد التغيير..حان دور الثقافة والمثقفين

ابراهيم العبادي|..

ابرز ماسجلته المرحلة الانتقالية التي اعقبت سقوط نظام صدام عام 2003 هو انحسار دور المثقف وغياب الحيوية عن الحقل الثقافي العراقي لصالح دور الزعيم السياسي والناطقين بأسم الطوائف والمدافعين عن الجماعات ومصالحها وحقوقها .
قدلايشكل هذا التراجع لدور المثقف امرا استثنائيا في مثل ظروف العراق العاصفة وتبدلات احواله في ظل جمهورية الخوف وقسوتها وصمتها ثم الانتقال الشرس من الاستبداد والشمولية الى الحقبة الحالية ،غير الطبيعي هو استمرار تراجع دور المثقف وخفوت صوت الثقافة في النسق الاجتماعي والسياسي وفي المجال العام، بسبب صعود الادلجة السياسية وتغلب منطق المتاجرة في الدين والطائفة والايديولوجيا واندفاع الكثيرين الى الاستثمار في هذا الحقل، دونما تكوين ثقافي ومعرفي رصين أو وعي بصير بالمآلات الاجتماعية والقيمية .

لم تخل الحياة السياسية العراقية من ادوار لمثقفين منذ تأسيس الدولة الحديثة ،كان اكثرهم متاريس في جبهة الاحزاب والمشاريع الايديولوجية ذات الاهداف السياسية السلطوية ،مثقف السلطة كما مثقف الجبهة المضادة المعارضة ،لايستطيعان الافلات من اسر الايديولوجيات واطواق الفكر المعلب ،لكن هذا الدور يفقد مشروعيته كلما تبادل الساعون الى السلطة المواقع والخطابات الهجائية ،وصار الدور ارتزاقا يدور على هامش الافكار ويقتات على خطوط الخصومة والرفض المتبادل .
في حمأة الصراعات السياسية والاستقطاب الطائفي والقومي ،يعمل زعماء الطوائف وقادة القوى السياسية المسلحة الى تسخين خطابات الهوية الفرعية وتصعيد اجواء التعبئة ،في تلك المناخات المضطربة يتوارى الفكر والمفكرون والثقافة والمثقفون ،وتحضر رجالات السلاح وحراس الامن والمدافعون عن حريم الجماعات ،حينها لا صوت يعلو على صوت مواجهة الخصوم وكسر المناوئين وتسفيه خطاباتهم المتحيزة ،اما مواجهة الحقائق وفضح الخطاب الموارب وكشف المستور من ممارسات وسياسات تنتهك عالم المثل والاخلاقيات والمعايير الانسانية وتبشر ببدائل معقولة فهي مدار عمل رهط من المثقفين ونقاد الفكر والسياسة استطاعوا التحرر من الايديولوجيات .

لكن الى اي حد يستطيع المثقف ان يمارس دور ماكنة النقد وكشف الاوهام والتزييف ؟ وكم هي مساحة الدائرة التي يستطيع الحراك فيها بموضوعية ومعقولية ويمارس انسانيته وحريته ؟
اظن ان جواب السؤال يقتضي معاينة قدرة المثقف على موازنة الفاعلية الثقافية والنقدية والكشفية وبين محددات البيئة الاجتماعية والدينية والسياسية .

ساستخدم مقولة هربرت ماركوز احد الفلاسفة الاجتماعيين ومن رموز مدرسة فرانكفورت لتحديد دور المثقف ،ماركوز يقول :على المثقف كي يكون كما يجب ان يكون ، ان يواجه المجتمع المسيطر ببديل اجتماعي متحرر من السيطرة ،يتيح للانسان مهما كان لونه ووضعه ومعتقده ،حياة مبرأة من القمع والحرمان ،ان دور المثقف الملتزم يكمن في توزيع الحقيقة على البشر كي يبصروا مايجب التخلي عنه ومايجب الاخذ به .

ان الجهر بالحقيقة مهمة المثقف الاساسية -بتعبير سارتر ،ومالم يستعيد المثقف دوره ويخلع عنه اردية التعصب الحزبي والطائفي والقومي والجهوية ويكف عن الترويج لمشاريع الوهم ،فلن يتمكن من اداء الدور المناط به ،دور الانتلجنسيا المهمومة بحرية وكرامة الانسان وحكم القانون وبناء النموذج الذي يضمن دولة الرفاه والمجتمع المفتوح والخيارات العقلانية .

مضى على التغيير عقدان حفلا باحتدام والتباس شديدين وتيه مجتمعي واعتلال علاقة الدولة بالمجتمع ،والمجتمع بالقانون ،والحريات بالقيم الاجتماعية ،والسيادة بالكرامة الوطنية ،والتقدم والتنمية بالمساواة المجتمعية ،مضغ العراقيون كلاما كثيرا عن الهويات وحقوق الجماعات واليات السيطرة والتحكم ،والان تلوح فرصة للتفكير الهاديء والعقلاني لمواجهة ماتراكم في سنوات الصراع بمفاهيمها الملتبسة للانتقال الى الحقل الاساسي ،حقل بناء الدولة واصلاح السياسات العامة و تصحيح علاقة المواطن بالدولة ،فلن تقوى الدولة بدون مواطن فعال ،ومجتمع مؤمن بالحقوق الاساسية ومدافع عنها ،حقوق الافراد كما حقوق الفئات ، تحت سقف الدولة والنظام والقانون والسيادة الوطنية’

ثمة فرصة لاعادة الحوار الثقافي السلمي بهدوء عن الوطنية الحقة والمواطنة الملتزمة والتدين الرحماني والسلطة التمثيلية والدستورية التعاقدية ،لتجاوز اسكاليات الفصام النكد بين الدولة والمجتمع والانتهاء من السلوك السلطوي والتعسف والتلبيس المتعمد والوعي الزائف والفساد المحمي بالارادات السياسية ،عانى العراق من سنوات تيه متطاولة رغم تاريخه الحضاري التعددي وثرائه الفكري ، وينتظر من مثقفيه ومفكريه اعادة مسار الحوار المجتمعي الى مايؤمن الاستقرار والسلم الاهلي والتنمية الشاملة والتغيير الاجتماعي بلا شروط ان الانتقال من سياسات الهوية وسلطة الايديولوجيا الى سياسات التنمية والتغيير عمل كبير يحتاج الى خطابات تفكيكية ورؤية ترسم خطوات الانتقال ،وهنا يحضر دور المثقف- قبل السياسي والرجل الحزبي – في اثارة النقاش المجتمعي العام ،وصناعةالبدائل ،غير ان العراق يعاني من اشكالية حقيقية اخرى متفرعة من اشكالية دور المثقف ،اذ من هو المثقف فعلا ؟ مامواصفاته ؟ فهل هو الاديب الشاعر والقاص وكاتب الرواية والنص المسرحي ،ام صانع الافكار وملهم السياسات ومجدد الخطابات ومفكك الالتباسات ؟
للحديث صلة.

نقلا عن صحيفة الصباح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار