الوطنية العراقية عود الى بدء – القسم الاخير


ابراهيم العبادي |..

في عام 2021 صدر عن مركز رواق بغداد للسياسات العامة ،كتاب الاستاذ الصديق جواد علي كسار ،(الوطنية العراقية -تحديات المشروعين الايراني والتركي )،الطبعة الاولى للكتاب جاءت بعد طبعة محدودة وزعها المؤلف على عدد من المهتمين ،وكما هي عادة العراقيين في الانشغال بالهامشي والسطحي من الامور ،مر الكتاب ومضمونه مرورا خفيفا على القراء رغم انه وزع في معرض بغداد للكتاب ،وكان جديرا ان تعقد له ورش وندوات وحوارات تستنطق مضمونه وفكرته الجوهرية وغاياته النهائية .

كتاب الوطنية العراقية وضع العراقيين عموما لاسيما (الاسلاميين )منهم امام تحدي فكري -سياسي -شعوري ،يلخصه الاستفهام الكبير ،هل لدى العراقيين مشروعهم الخاص لبناء الدولة العراقية في قبال مشاريع جيرانهم ؟ ومامواصفات هذا المشروع ؟.

لقد صاغ الايرانيون مشروعهم الاسلامي الشيعي بهوية ايرانية واضحة، وراحوا يحشدون دفاعا عنه بتوظيف امكاناتهم المادية والمعنوية واستلحاق امكانات الشيعة الاخرين لخدمة الامن القومي الايراني بيافطة كبيرة عنوانها مواجهة المشاريع المعادية والمنافسة لينتهوا اخيرا الى بناء جبهة المقاومة والممانعة ،في الجهة المقابلة نجح الاتراك في بناء مشروعهم الاسلامي الجديد بنسخة مذهبية موازية وبطموحات كبيرة وبهوية تركية مندمجة مع اسلامية محدثة عمادها الاقتصاد المتنامي ودولة الرفاه المعتمدة على امن محروس بقوة ضاربة متوسعة خارج الحدود .

يشعر عراقيون كثر من اتجاهات فكرية ومشارب سياسية متعددة بان استقرار العراق وازدهاره رهين باعتماد سياسة متوازنة مع الجيران والعالم الخارجي ،توازن يضمن استقرار المعادلة السياسية والامنية الداخلية ،ويوفر مناعة داخلية ، تحول دون استتباع فريق عراقي لاي من الدوائر الاقليمية المحيطة ،فالعراق يتأثر بالدائرة الشيعية التي تمثلها ايران الاسلامية المسكونة بالهاجس الامني والشعار الثوري ، كما هو متأثر بالدائرة السنية التي تمثلها تركيا والبلدان العربية التي ترى العراق حجر زاوية في الامن القومي العربي ،كما ان تاريخ وثقل العراق وعمقه الحضاري يجعل منه مصدر تأثير كبير في المنطقة ،ونجاح اي مشروع خارجي في اخراج العراق من حالة التوازن يعني اضطراب ساحته الداخلية ومحيطه الاقليمي، وصيرورته ساحة استقطاب وصراع اقليمي ودولي ينعكس داخليا ، فوضى ودمار وصراع ايديولوجي لايتوقف .

لابد للعراق من بناء مشروعه الوطني الخاص ،وفقا لمقتضيات ساحته الداخلية ومتطلبات امنه الخارجي ،وهذا المشروع ينطلق من فكرة اساسية هي الوطنية العراقية التي تغلب مصالح العراق على ماسواها ،وليس مصالح فئة او حزب او قوى محلية وماتقرره مصالحها الانية وتحالفاتها التي تقصر عن مصالح العراق الكبرى .

صيرورة العراق جزء من محور المقاومة او عضوا في منظومة منافسة للمحور الاول او بيدقا تابعا لاي قوة اقليمية او دولية ،امريكية او روسية او صينية ، وساحة تنافس وتصارع مستدام ستكون خطأ ستراتيجيا يؤدي الى نتائج كارثية ،هوية العراق الاسلامية واكثريته الشيعية العربية وتنوع تكوينه المذهبي والقومي والديني والثقافي محددات أساسية تستدعي قراءة صحيحة ومعها يتحتم النظر الى المخاطر التي تترتب على ضعف العراق وهشاشة دولته، وانقسام مجتمعه وبحث كل جماعة من جماعاته الداخلية عن حليف خارجي يمارس دور الحامي والوصي السياسي ،وهذا ماحذر منه المرجع السيستاني مرات عديدة ، داعيا العراقيين الى وحدة وطنية تمنع تدخل (الغرباء ) وهي المفردة التي فسرها كل اتجاه عراقي بما يحلو له من تفسير ، دونما وعي للمعنى العميق للكلمة ،التي تعني غير العراقيين مهما كان قربهم او بعدهم من العراقيين .

لقد ظل مشروع الوطنية العراقية المشروع الاقل اهتماما في اجندة الصراعات والاختلافات العراقية بسبب ماتعيشه الحالة العراقية من استقطابات خارجية وداخلية ،ولن يستعيد العراق توازنه الداخلي والخارجي ،الا بعودة مفهوم الوطنية اولوية عامة في الثقافة السياسية لكل عراقي بلا اختراقات سياسية او فكرية او ثقافية من اي مشروع لاينبثق من مصالح العراق الذاتية ،لقد نادت ثلة قليلة من الكتاب والباحثين وبعض السياسيين بضرورة ولادة مشروع وطني عراقي يجمع اسلاميي العراق وقومييه وفئاته الاخرى ، واذا كان شيعة العراق هم الذين توجهت اليهم سهام النقد فيما مضى بسبب الصراع المذهبي والطائفي التاريخي ،واتهموا في وطنيتهم ظلما ،فان الوعي السياسي الشيعي العراقي اليوم مدعوما برؤية مرجعية نجفية صار اكثر وضوحا في تحديد اولوياته ،رغم ان بداياته تحركت منذ بيان التفاهم الاول الذي اصدره حزب الدعوة عام 1980 مرورا بدعوات المثقفين والكتاب الاسلاميين الى الدعوة الاخيرة لرئيس تيار الحكمة السيد عمار الحكيم ،الشيعة لايحتاجون الى توكيد وطنيتهم وولائهم لاوطانهم في جميع دول المنطقة بل في قيادة المشروع السياسي الوطني الذي يقوم على اولوية مصالح الوطن والجماعة الوطنية على الانتماء المذهبي دون ان يخدش ذلك من مظلة هذا الانتماء ،لكن المذهبية ليست هي الجامع للجماعات المختلفة مذهبيا بل المشروع الوطني الذي يربط الولاء للوطن ومصالحه وتقديمها على سائر الاهتمامات والولاءات مع الالتزام بالرابطة الدينية والقومية قدر المستطاع وليس اكثر من ذلك .

صحيفة الصباح 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار