الدولة العمياء

بقلم/ سعدون محسن ضمد
الدولة التي لا تولي جهودا كبيرة ليكون لديها علماء في التخصصات الإنسانية – علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والفلسفة وعلم النفس… إلخ – دولة أمية بمعنى الكلمة، والمسؤولون المباشرون عن تغييب هذا الهم عن عناية الدولة هم أميون بامتياز.
الدولة أساسها الإنسان، وفضاء الإنسان هو المجتمع، وروح المجتمع هي الثقافة أي أسلوب حياة الناس وأخلاقهم ومعايير سلوكهم. وهذه الأساسيات لا يمكن تنميتها وتصحيح أخطائها دون دول الفلسفة وعلوم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا وبقية العلوم الإنسانية الأخرى.
هل تصدقون أن بعض أقسام العلوم الإنسانية في جامعة بغداد، وهي الجامعة الأم في العراق، توشك أن تغلق أبوابها بسبب عدم رغبة الطلبة في التقديم إليها؟
ما الجواب الذي تقدمه وزارة التخطيط إزاء هذا الخلل الجوهري؟
وعندما تُغلق هذه الأقسام ويكف باحثوها وأكاديميوها عن العمل، فمن سيعالج مشكلة الفساد الذي يوشك أن يطيح بهذا البلد؟
من يعالج مشكلة غلبة الخطاب الطائفي؟
غلبة خطاب الكراهية؟
من يعالج مشكلة انتشار المخدرات بين أفراد المجتمع؟
من يعالج انتشار العنف؟
من يعالج مشكلة الأميّة السياسية التي تكاد أن تحول العراق إلى مسخرة بين الدول الإقليمية والعالمية؟
الدولة التي لا ترعى الاختصاصات الإنسانية تشبه الكائن الذي يسعى إلى إتلاف عينيه، لأنها ستتحول إلى دولة عمياء.
طيب، لماذا لا يتوجه الطلبة إلى الدراسة في هذه الأقسام؟ الجواب: لأن لا يجدون فرص توظيف، لأن مؤسسات الدولة ليست معنية بهم لأن ليس لدينا تخطيط فاعل، كما أن الكثير من قادة مؤسساتنا ووزاراتنا لا يعرفون ما هي الاختصاصات التي تناسب مجالات عمل مؤسساتهم. وهنا أريد أن أسأل:
كيف يمكن لتخصصات العلوم الإنسانية أن لا يكون عليها طلب كثير ولدينا أجهزة معلومات (مخابرات واستخبارات وأمن وطني)؟ كيف تختار هذه الأجهزة كوادرها؟ وكيف تتجاوز الاختصاصات الإنسانية وهي تتعامل مع الإنسان أولا وأخيرا؟
ما هو فضاء عمل المؤسسات الأمنية الأخرى، من داخلية ودفاع؟ أليس الإنسان ومشاكل الإنسان والتحديات التي تطرحها هذه المشاكل؟ طيب، من هي الاختصاصات الأكفأ في معالجة هذه المشاكل؟
كيف تتخطى وزارة التربية مشاكل الاكتظاظ في المدارس، مشاكل التنمر بين الاطفال، مشاكل انتشار المخدرات في المدارس، وهي تعاني من فقر في الخبراء الاجتماعيين والنفسيين؟
ماذا عن المحاكم؟ ما هي مساحة اشتغالها؟ أليس الناس والأفراد والطلاق والعنف الأسري والسرقة والغش ومختلف المشاكل والأمراض الاجتماعية؟
ماذا عن وزارة العدل والسجون ودور التأهيل؟ من أين تموّن حاجاتها إلى الكوادر إن لم يكن من الاختصاصات الإنسانية؟
هل أزيدكم من الشعر بيتا؟
هناك أقسام للعلوم الإنسانية أغلقت فعلا في بعض جامعاتنا!
وهذا منجز مهم يضاف لبقية منجزات بيئتنا السياسية الأمية التي تنخر بهذا البلد كما تنخر العثّة في الخشب.



