استجداء الجماهير الصدرية: فوزٌ مستعار وثمنٌ باهظ

ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي
في المشهد السياسي العراقي، تتكاثر الأصوات التي تبحث عن موطئ قدم في الانتخابات القادمة عبر بوابة التيار الصدري، رغم أن هذا التيار قد أعلن انسحابه عام 2021 واعتزاله العمل السياسي. المفارقة أن بعض الكتل والأحزاب والشخصيات، بدل أن تنشغل باقناع الجماهير ببرامجها وماهية وجودها، وبناء قاعدتها الاجتماعية وتطوير خطابها السياسي، راحت تستجدي جمهور الصدر كما يُستجدى الدعم المالي في لحظة عجز. إنها ظاهرة تكشف عمق الأزمة البنيوية في الحياة السياسية العراقية، حيث تحوّل الجمهور من رصيد وطني إلى عملة انتخابية مستعارة، تُمنح وتُسحب بإيعاز من السيد مقتدى الصدر.
هذه الظاهرة لا تمثل مجرد خطوة تكتيكية، بل انحرافاً استراتيجياً خطيراً يكشف عمق الأزمة التي تعيشها القوى السياسية العراقية، وعجزها عن بناء قواعدها الاجتماعية المستقلة، واستمرار اعتمادها على الرمزية الدينية والشعبوية كوسيلة للبقاء في السلطة.
فالذي لا يملك جمهوره لا يملك قراره، ومن يتوسل أصوات الآخرين لبلوغ السلطة، إنما يتنازل مسبقاً عن استقلاله السياسي، ويحوّل نفسه إلى تابعٍ في لعبة النفوذ التي يتحكم بمفاتيحها السيد مقتدى الصدر وقيادة التيار.
أولاً: استجداء الأصوات.. عجزٌ لا دهاء
حين تعجز الكتلة أو الشخصية السياسية عن خلق قاعدة انتخابية نابعة من فكرها ومشروعها، تلجأ إلى استعارة الجمهور من تيار آخر. وهذه ليست عملية تحالف بقدر ما هي استدانة سياسية، تُسدّد لاحقاً عبر تنازلات مكلفة في المواقف والمواقع.
فالجمهور الصدري ليس جمهوراً عابراً أو مرتزقاً أو محايداً، بل جمهور عقائدي منضبط تنظيمياً، يتحرك وفق توجيهات قيادته، ولا يمنح صوته إلا بإيعاز صريح من زعيم التيار السيد مقتدى الصدر. لذلك فإن أي كتلة تسعى وراء أصوات هذا الجمهور، إنما تدخل في عقدٍ غير مكتوب، يصبح فيه التيار شريكاً خفياً في القرار، مهما حاول الطرف الآخر إنكار ذلك.
ثانياً: الثمن السياسي للتقرب من التيار
لا يمكن لأي حزب أو مرشح أن يحصل على دعم أو أصوات جمهور التيار دون ثمن سياسي واضح. فالثمن هنا ليس مادياً، بل استراتيجياً، يتمثل في الخضوع لشروط التيار، والالتزام بخطابه، وربما تبني مواقفه من الحكومة، أو من خصومه السياسيين.
وهذا يعني أن أي فوز انتخابي يتحقق عبر أصوات التيار الصدري، سيكون فوزاً مشروطاً، إذ تبقى شرعية هذا الفوز مرهونة برضا السيد مقتدى الصدر، وباستمرارية الضوء الأخضر من قيادته السياسية. فما يُمنح بالإيعاز يمكن أن يُسحب بالإيعاز أيضاً، وما يُبنى على الولاء المؤقت سرعان ما ينهار مع أول تبدّل في المزاج السياسي للتيار.
ثالثاً: من الشراكة إلى التبعية
تجارب التحالف مع التيار الصدري في مراحل سابقة أثبتت أن العلاقة معه ليست شراكة متكافئة، بل هي علاقة هيمنة رمزية وتنظيمية. فالتيار، بحكم طبيعته العقائدية وتماسكه الداخلي، يفرض إيقاعه على من يتحالف معه، لا العكس. وبمجرد أن يمنح دعمه لقائمة أو مرشح، يصبح هو صانع النصر الحقيقي، فيما يتحول رئيس الكتلة إلى واجهة شكلية، أو كما يصفها البعض “صورة كارتونية” تتحرك وفق إرادة السيد مقتدى ودوائر قراره. وهنا يتجلى الخطر الأعمق: فالفوز الذي يُبنى على أصوات التيار ليس انتصاراً انتخابياً ذاتياً، بل وكالة سياسية مؤقتة يُمنح فيها المقعد لا لصاحبه، بل للتيار الذي هندس الأصوات خلفه.
رابعاً: إعادة تشكيل موازين القوى
أي اتفاق محتمل بين التيار الصدري وأي كتلة سياسية في المستقبل سيؤدي حتماً إلى تغيير موازين القوى داخل البرلمان والحكومة. فجمهور التيار يمتلك كتلة انتخابية حرجة، قادرة على تحويل نتائج الانتخابات من ضفة إلى أخرى، ما يجعل من أي دعم صدري مفتاحاً للحسم السياسي. وهذا ما يدركه الطامحون الذين يحاولون كسب رضا السيد مقتدى الصدر، لكنهم يتناسون أن رضا الصدر ليس مجانياً، وأن الدخول إلى ساحته يعني القبول ضمنياً بقواعد لعبته وشروطه.
خامساً: الدرس الاستراتيجي
إنّ استجداء أصوات التيار الصدري هو انتحار سياسي مقنّع، لأنه يجعل الأحزاب رهينة لإرادة خارج بنيتها التنظيمية. والسياسي الذي يفوز بأصوات لا يملكها، سيبقى أسيراً لمن منحها، لا حراً في قراراته. من هنا، فإن أي كتلة تراهن على جمهور الصدر لتحقيق مكاسب انتخابية مؤقتة، إنما تتنازل عن سيادتها السياسية، وتحوّل نفسها إلى تابع، يتحرك بقرار من خارجها، ويفقد القدرة على المناورة أو الاستقلال لاحقًا.
وليعلم الجميع إن التيار الصدري تيار عقائدي منضبط، يملك مفاتيح جمهوره ولا يتنازل عنها بسهولة. لذلك، فإن كل من يسعى وراء أصواته دون مشروع واضح أو تفاهم استراتيجي متوازن، إنما يضع نفسه تحت رحمة السيد مقتدى الصدر، ويحوّل فوزه الانتخابي إلى نصر مستعار، بلا عمق ولا شرعية مستقلة. وما بني على الإعارة، يُسحب عند أول خلاف. إنها معادلة واضحة: من يستجدي جمهور الصدر، يفقد استقلاله السياسي قبل أن يفوز، ومن يربح بظله، يخسر نفسه حين يبتعد ظله عنه.