متى يتغير النظام في العراق؟ (6) التغيير بدأ.

بقلم: منقذ داغر
لا نريد ان نعيش على صدقات المحسنين. لا نريد ان تحسن الدولة علينا… لا نريد دولة محسِنة، بل دولة حرية وعدل” الرئيس الأمريكي ودرو ويلسون
يجادل العالم السياسي الفرنسي توكفيل Tocqueville بأن التغيرات الشاملة في أي نظام هي ليست لحظة منقطعة عن سياقها، وانما يجب ان تفهم على انها نقطة ضمن سياق تاريخي متراكم. يساعد فهم نموذج توكفيل في تفسير تغييرات النظام الحديثة – سواء في دول ما بعد الاستعمار (كما في حالة العراق) أو في ثورات العصر الرقمي، من خلال إظهار ما يلي:
1.غالبا ما يسبق الاضمحلال المؤسسي الصراع المفتوح.
2.عادة ما تعيد هياكل السلطة الجديدة استخدام الشبكات الإدارية القديمة.
- من الأفضل النظر إلى لحظات الانتفاضات -مثل تشرين 2019- على أنها بروزات على منحدر متدرج ، وليس على أنها قطرات ساقطة من جرف مقطوع.
دعونا نطبق نقاط هذا الأنموذج التوكفيلي على حالة العراق. فبالنسبة للنقطة الأولى دعونا نتساءل: هل هناك صراع مؤسسي مفتوح وواضح ضمن الدولة العراقية؟ هل هناك صراع -وليس خلاف- بين مؤسسة البرلمان والسلطَتين التنفيذية والقضائية؟ هل توجد محاولات لأحدى السلطات للهيمنة على باقي السلطات؟ هل تمر جميع المؤسسات او بعضها بمرحلة اضمحلال في سيطرتها على مهامها، وبالتالي في ثقة الناس وبقية المؤسسات بها؟ سأترك الإجابات لكم. أما بالنسبة لإعادة هياكل السلطة الجديدة استخدام الشبكات الإدارية القديمة فيكفي ان ننظر لأعداد الشمولين باجتثاث البعث الذين تسنموا مناصب إدارية عليا ضمن هياكل السلطة الجديدة. تجدر الإشارة ان مئات المرشحين لانتخابات 2025 البرلمانية تم استبعادهم من سباق الترشح بسبب شمولهم باجتثاث البعث وكثير منهم كانوا من أعمدة ومؤسسي النظام الحالي ووزرائه ونوابه! أخيراً نتساءل بخصوص النقطة الثالثة: هل كانت تشرين 2019 لحظة منقطعة عما سبقها أم كانت قمة ضمن سياق انحدار متواصل في فجوة انفصال الشعب عن دولته؟! الم تسبق مظاهرات تشرين مظاهرات اقل حشداً وبشكل شبه مستمر منذ 2011؟ هل كان شهداء تشرين هم اول شهداء طالبوا بتصحيح النظام او حتى تغييره؟ لماذا حظيت تشرين بتأييد أكثر من 75% من العراقيين كما اشارت لذلك استطلاعات الرأي في حينها؟! لماذا أيدت حتى مرجعية النجف الدينية انتفاضة تشرين؟ واضح اذاً ان تشرين كانت متصلة بما سبقها، وهي بالتأكيد سوف لن تكون منقطعة عما يليها. هذا يعني أن ملامح التغيير بحسب انموذج توكفيل قد بدأت حتى وإن لم تحقق غايتها بعد.
لم يكتفِ نظام الحكم -وليس النظام السياسي- في العراق بعد 2003 بالقيام بالنقاط أعلاه فقط، بل زاد على ذلك بتطبيق نظام المحاصصة الطائفية الذي قضى على نظام الوسطاء المحليين المخلصين للنظام -كما في السابق- واستبدلهم بنظام تقاسم للسلطة على أساس عرقي وطائفي حوّل العراق الى ثلاث جزر كبيرة (سنية وشيعية وكوردية) شبه معزولة، بل ومتصارعة في كثير من الأحيان. لقد حل تقاسم السلطة من قبل القوائم العرقية والطائفية محل روابط المحسوبية الحزبية والولائية القديمة، لكنه فشل في إعادة بناء الثقة على مستوى البلديات أو تقديم الخدمات، مما أدى إلى تفريغ قدرة الدولة بهدوء. وبغض النظر عن الرأي بالنظام القديم ومحسوبياته الحزبية والولائية، الا انه تمكن من بناء شبكات من الوسطاء المحليين (حزبيين وبيروقراط) تمكنوا من ربط المحليات(المحافظات والأقضية والنواحي والقرى) مع المركز من جهة ومع بعضها البعض من جهة أخرى ضمن وحدة قرار واحدة ساعدتهم كثيراً في أدامة نظام الحكم آنذاك وتنفيذ ما يريد بسرعة وكفاءة واقل ما يمكن من تجاذبات مناطقية او طائفية او حزبية كما يحصل اليوم. صحيح ان اجتثاث البعث أدى إلى تطهير الموالين للحزب، لكنه ترك مساحات شاسعة من هياكل ومؤسسات الخدمة المدنية دون تغيير، مما أدى إلى استنزاف شرعيتها مع الحفاظ على شبكاتها حتى باتت مرتعاً للفساد ومضرب مثل لعدم الكفاءة بنظر الجمهور.
ونظراً للأنموذج الاقتصادي الريعي rentier economy الذي تكرس كثيراً بعد 2003 وتحولت فيه الدولة الى بائع جملة للنفط الخام، فقد تم استبدال نظام المكافآت القائم على الولاء الآيدلوجي في زمن صدام، الى نظام الولاءات التبادلية النفعي. فلطالما بقيت أسعار النفط مرتفعة والدولة قادرة على دفع الرواتب، حتى ولو على حساب الاستثمار والتنمية فستستمر بشراء سكوت المواطنين من خلال التوسع في التعيينات بالوظائف العامة وبالتالي اثقال البيروقراطية العراقية بمزيد من الأعباء وانخفاض الإنتاجية والكفاءة. وحينما تقل أسعار النفط تواجه الدولة ازمة حقيقية كتلك التي واجهتها بعد وباء كورونا وعجزت فيها عن دفع الرواتب مما أضطرها لخفض قيمة العملة العراقية وكالأزمة التي واجهتها مؤخراً وتأخرت فيها عن دفع رواتب المتقاعدين. لقد حلّ الولاء المصلحي محل الولاء الآيدلوجي حتى بات دفع راتب رعاية اجتماعية، او للمتضررين من النظام السابق، أو السجناء السياسيين، أو جماعة رفحا، أو حتى المعيَنين في وظائف الدولة يجري لشراء الولاءات والأصوات الانتخابية بطريقة جعلت أكثر من ثمانية ملايين عراقي من مجموع حوالي 25 مليون عراقي أكبر من 18 سنة،أي ثلث العراقيين في سن العمل يأخذ راتباً من الدولة ليس لأنه منتِج للثروة بل لأنه مستهلكٌ لها ومستفيدٌ منها!!
ومما زاد الطين بلّة هو انتشار الفساد بشكل واسع ومتخادم حتى تحول من استثناء لقاعدة، ومن جُزُر معزولة الى شبكات ممتدة على طول البيروقراطية وعرضها. وفي أحدث استطلاع للرأي أجرته المجموعة المستقلة للأبحاث ووصل الفساد الى حالة بات فيها أقوى من الدولة ومسيطراً حتى على نظام الحكم ومؤسساته. ولعل حادثة نور زهير وكيفية افلاته من العقاب بعد ان سرق ثلاث مليارات من الدولارات من الدولة خير مثل على تفوق الفساد على الدولة وخضوعها له. باختصار فقد تم اثقال الدولة وأجهزتها بنظام المحاصصة والذي لا يعدو كونه نظاماً لتقاسم الغنائم والأسلاب بين القوى السياسية المتحاصصة وبشكل شبيه جداً لنظام الغنائم الأمريكي Spoil System قبل إصلاحه في بدايات القرن الماضي نتيجة المشاكل الجمة التي سببها للدولة آنذاك.