بعد حلّ حزب العمال الكردستاني.. هل حانت لحظة انسحاب تركيا من شمالي العراق؟ (ملف جريدة)

خاص|
تبدو لحظة إعادة رسم التوازنات الإقليمية في شمال العراق أقرب من أي وقت مضى، مع إعلان حزب العمال الكردستاني تفكيك نفسه رسميًا، وإنهاء العمل المسلح الذي استمر على مدى أربعة عقود.
وبينما اعتبر كثيرون هذه الخطوة التاريخية فرصة نادرة لإنهاء واحدة من أعقد حلقات النزاع في المنطقة، تبرز تساؤلات حتمية حول مصير القواعد العسكرية التركية التي تنتشر في دهوك وأربيل ونينوى، تحت ذريعة مواجهة الحزب، فهل ستغادر تركيا أراضي العراق بعد زوال المبرر الأمني؟ أم أن وجودها العسكري تجاوز منذ سنوات مجرد “مطاردة المسلحين” ليصبح جزءًا من معادلة إقليمية أشمل؟ وهل تملك بغداد أوراق القوة اللازمة لفرض الانسحاب؟
وجود عسكري بلا غطاء قانوني
المحلل السياسي الكردي كاروان أنور، أكد في تصريح لـ”منصة جريدة”، أن استمرار وجود القوات التركية داخل الأراضي العراقية “يشكّل خرقًا صارخًا لجميع القوانين والدساتير والمعاهدات الدولية، باعتباره انتهاكًا واضحًا لسيادة العراق”.
وأضاف أن “عدد المعسكرات التركية داخل العراق يتجاوز أربعين معسكرًا، إضافة إلى مطارات وتجمعات عسكرية”، محذرًا من أن “تركيا قد تحاول ربط انسحابها بملفات اقتصادية مثل تصدير النفط العراقي عبر ميناء جيهان ورفع رسوم التصدير”.
ورأى أنور أن “التدخلات التركية فقدت مبرراتها بعد التقدم في المفاوضات بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني، ما يجعل من الضروري بدء انسحاب القوات التركية من دون أي شروط أو ضغوط”. وختم بالتأكيد على أن “الكرة الآن في الملعب العراقي، وعلى اللجان المختصة فرض شروطها الواضحة لإنهاء هذا الوجود غير المشروع”.
وتُقدر القواعد التركية في العراق بما لا يقل عن 50 موقعاً عسكرياً، تتوزع بين معسكرات دائمة ونقاط مراقبة حدودية، وتضم آلاف الجنود المدججين بالأسلحة المتوسطة والثقيلة، وسط غياب أي تفويض قانوني من البرلمان العراقي أو اتفاق رسمي معلن بين بغداد وأنقرة.
ومنذ عام 2015، بدأت تركيا بإعادة هيكلة وجودها العسكري في شمال العراق، عبر إنشاء قواعد ثابتة بدلاً من الاعتماد على توغلات موسمية، وشملت هذه القواعد بنى تحتية متكاملة من مراكز قيادة ومهابط طائرات ومدفعية ثقيلة، وتتمركز غالباً في المناطق الجبلية الوعرة داخل دهوك وأربيل، ما منحها قدرة استراتيجية على المراقبة والتدخل السريع.
تركيا.. اللاعب الأبرز في معادلة التمدد
في خضم هذه التحولات، أكد الخبير الأمني والعسكري عماد علو لـ”منصة جريدة” أن تركيا باتت “جزءًا مهمًا من منظومة التغيير الجيوسياسي في الشرق الأوسط”، مضيفًا أن أنقرة “تلعب اليوم دورًا محوريًا في منظومة الحكم الجديدة التي تشكلت في دمشق بعد انهيار نظام بشار الأسد، ولها كلمة فاعلة داخل أروقة القصر الجمهوري”.
وربط علو بين الانتشار التركي في شمال سوريا وتوسعها العسكري في شمال العراق، مشيرًا إلى “وجود مشاورات تركية مع الولايات المتحدة وإسرائيل لتنسيق الأدوار وتجنب التصادم”، ما يؤشر، برأيه، إلى “دور يتجاوز الحسابات الأمنية المباشرة ويصب في مشروع نفوذ أوسع”.
وحذر من أن هذه التحولات “ستنعكس مباشرة على الأمن الوطني العراقي”، موضحًا أن الحدود العراقية السورية، الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر، “باتت منطقة اضطراب عالية الخطورة”، فيما تتحرك فصائل مسلحة في تناغم مع السياسات التركية، في تطور وصفه بـ”الخطير”.
ويأتي هذا التحذير في وقت تشير فيه تقارير أمنية إلى استمرار تحليق الطائرات التركية المسيّرة فوق مناطق عراقية داخل العمق الجغرافي لمحافظات السليمانية وأجزاء من أربيل، ما يفتح الباب أمام تساؤلات عن مدى السيطرة الفعلية للدولة العراقية على أجوائها وحدودها.
تحالفات متغيّرة وتراجع نفوذ إيران
أما الباحث في الشأن السياسي نزار حيدر، فقد وضع هذه التطورات ضمن سياق إقليمي أشمل، مؤكداً لـ”منصة جريدة” أن المنطقة “تشهد منذ أكتوبر 2023 إعادة تشكيل شاملة للخرائط والتحالفات”، مشيرًا إلى “انهيار محور تقوده روسيا وإيران، مقابل تصاعد نفوذ تركي – إسرائيلي مدعوم من بعض دول الخليج”.
وأوضح حيدر أن “تركيا اليوم تسدّ الفراغات التي خلّفها تراجع المحور الإيراني، بفضل امتلاكها لنقاط قوة استراتيجية مثل عضويتها في الناتو، وانفتاحها على الغرب، ودورها كجسر بين الشرق الأوسط وأوروبا”.
وفي هذا الإطار، قال حيدر إن العراق “هو المتأثر الأكبر بهذه التحولات”، لافتًا إلى أن “البلاد ما زالت تدار بعلاقات خارجية غير مؤسسية، تفتقر إلى مركز قرار موحد، سواء أمنياً أو سياسياً”، ومشيرًا إلى أن “بعض إدارات العلاقة مع دول الجوار ما زالت تتم عبر قنوات أمنية واستخباراتية، في ظل ضعف الدور المؤسسي لوزارتي الخارجية والدفاع”.
ويحذّر حيدر من أن “النفوذ التركي امتد من زاخو إلى كركوك والموصل”، مدعومًا بأذرع عسكرية واستخبارية على الأرض، وطائرات استطلاع تحلّق في أجواء المدن العراقية، وسط “صمت رسمي يثير الكثير من علامات الاستفهام”.
نفوذ متصاعد وأهداف اقتصادية
من جانبه، قال المحلل السياسي حيدر سلمان لـ”منصة جريدة” إن “الشرق الأوسط يشهد متغيرات كبرى في موازين القوى، حيث أصبحت تركيا رأس الحربة في إعادة رسم النفوذ الإقليمي، في حين يواجه المحور الإيراني تحديات غير مسبوقة”.
وأشار إلى أن “أنقرة تمارس سياسة امتصاص الأزمات، وتدفع حلفاءها في دمشق وبغداد نحو التفاهم مع إسرائيل والولايات المتحدة، لتفادي الانخراط في صراعات مكلفة”. وأضاف أن “وجود تركيا العسكري في العراق لم يعد مرتبطًا فقط بحزب العمال الكردستاني، بل بات جزءًا من ترتيبات أوسع تشمل تأمين مشروع طريق التنمية وربط العراق بممرات تجارية دولية”.
وحذّر من أن “إسرائيل تسعى لتحويل الساحة العراقية إلى ساحة صراع طائفي منخفض الكلفة”، ما يجعل من استمرار التذبذب الأمني في البلاد خطرًا مضاعفًا، مشيرًا إلى أن “النفوذ الإيراني يتراجع، ما يدفع بعض القوى الشيعية إلى توثيق علاقاتها بواشنطن أو البحث عن ظهير تركي”.
ورجّح سلمان أن “تتحول القواعد التركية إلى أدوات سياسية للمساومة في ملفات مثل النفط والمياه”، مؤكدًا أن “بقاء الوضع على ما هو عليه سيفاقم من هشاشة العراق السياسية، ويقوّض أي مسار للتنمية أو الاستثمار”.
وبحسب تقارير ميدانية، فإن أكثر من 35 قرية حدودية عراقية شمال دهوك نزح سكانها خلال السنوات الماضية بسبب القصف التركي المتكرر، بينما ما تزال مناطق مثل العمادية وزاخو تشهد تحليقاً مستمراً للطائرات التركية المسيّرة، وسط غياب تام لأي تدخل حكومي لحماية المدنيين.
الكرة في ملعب بغداد
ورغم أنّ تفكيك حزب العمال الكردستاني أزال الحجة الرئيسية التي لطالما استخدمتها أنقرة لتبرير وجودها، إلا أن الوقائع تشير إلى أن تركيا لم تصدر حتى الآن أي مؤشر على نية الانسحاب من الأراضي العراقية. فمواقف مسؤوليها، خصوصاً وزير الخارجية هاكان فيدان، تؤكد على “ضرورة مواصلة مكافحة الإرهاب” و”مراقبة تنفيذ قرار حل الحزب”، ما يُبقي الباب مواربًا أمام استمرار التمركز العسكري.
في المقابل، ما زالت الحكومة العراقية تلتزم الصمت الرسمي، فيما تعجز عن اتخاذ موقف حازم يطالب بانسحاب فوري. ويعزو مراقبون ذلك إلى الحسابات السياسية المعقدة، سواء بسبب تباينات داخل القوى الشيعية، أو لارتباط بعض مشاريع التعاون الاقتصادي، مثل “طريق التنمية”، بالوجود التركي في تلك المناطق.
ومع ذلك، فإنّ أصواتًا داخل البرلمان العراقي بدأت تُطالب بجدولة الانسحاب التركي، خاصة في ضوء غياب أي اتفاقية أمنية رسمية أو تفويض قانوني لهذا الوجود.
وفي هذا السياق، تبقى الخيارات أمام بغداد مفتوحة على كل الاحتمالات؛ فإما التفاوض بهدوء لإعادة الانتشار التركي، أو الدخول في لعبة توازن إقليمي تتيح تقليص هذا الوجود تدريجياً، لكن بشرط توفّر الإرادة السياسية الواضحة.
وفي ظل المتغيرات الإقليمية المتسارعة، وانهيار أحد أبرز الفاعلين المسلحين داخل الحدود العراقية، تلوح أمام بغداد فرصة نادرة لإعادة تعريف العلاقة مع أنقرة، بعيدًا عن إيقاع المعارك الحدودية، أو ضغوط المحاور المتصارعة.
لكن هذه الفرصة، كما يراها محللون، قد تضيع إذا استمرت حالة التردد، وتعدد مراكز القرار داخل الدولة، وغياب رؤية وطنية موحدة لملف السيادة، فالوجود التركي اليوم لم يعد مجرد قضية أمنية، بل مؤشر على توازن القوى داخل العراق نفسه، ومدى استقلالية قراره السياسي.
وفي المحصلة، ما بعد حلّ “العمال الكردستاني” ليس كما قبله. ويبقى السؤال: هل تتحرك بغداد لفتح صفحة جديدة؟ أم تظلّ تركيا لاعبًا ثابتًا في مشهد لم تُحسم خرائطه بعد؟