ثلاث تطورات استراتيجية تكشف قلب المشهد السوري

ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي

في غضون أيامٍ معدودة، اهتزّ المشهد السوري تحت وقع ثلاث تطورات لم تكن عابرة ولا معزولة. لم تكن مجرّد حوادث أمنية أو مناسبات دبلوماسية أو صفقات اقتصادية؛ بل كانت علامات فارقة في انتقال سوريا من حقبة الحرب إلى زمن الترتيب الجديد. ومن يملك حسّ الرصد الاستراتيجي، يعلم أن تلك التحركات ليست سوى نوافذ على صفقة أكبر يُصاغ هيكلها خلف الأبواب المغلقة. فما الذي حدث؟ وكيف تتقاطع هذه الأحداث لتكوّن نواة سوريا ما بعد الأسد؟

أولاً: عودة الأمريكي من بوابة الإنزال

في الشمال السوري، وتحديداً في المنطقة الفاصلة بين إدلب وحلب، سُجّلت عملية نوعية مشتركة جمعت الولايات المتحدة، وتركيا، وعدداً من الفصائل السورية المحسوبة على ما يُسمّى “الجيش الوطني”. الإنزال لم يكن لملاحقة شخصية قيادية في “داعش” فحسب، بل كان استعراض قوة وإعادة اصطفاف. أمريكا، التي بدت وكأنها اكتفت بإدارة الملف السوري من الخلف في الأعوام الأخيرة، قررت أن تعود مباشرة إلى الميدان، لكن هذه المرة ليس عبر قسد، بل عبر أدوات جديدة، وشركاء تقليديين أعيد تأهيلهم. ما الذي يعنيه هذا؟
يعني ذلك؛ أن الأمريكيين يرسلون إشارات واضحة بأنهم لن يتركوا الساحة لروسيا وإيران، وأن مشروعهم في سوريا لم يُغلق بعد. فحتى بعد “انتصار الأسد الميداني”، فإن البنية السياسية السورية ما زالت على طاولة التشريح، وواشنطن تريد أن تُمسك بالمشرط مجدداً.
والأهم، أن هذه العملية بعثت برسالة إلى القوى المحلية في دمشق ومحيطها: من دون الرضا الأميركي، لا مشروع سياسي سيكتب له الاستمرار. إنها صفعة ناعمة، لكنها مُدوية، موجهة لمن يظنون أن بوسعهم هندسة بديل لبشار الأسد خارج الجغرافيا التي تسيطر عليها واشنطن أو دون موافقة تل أبيب.

ثانياً: المنتدى السعودي – السوري

في العاصمة السورية دمشق، وتحديداً بقصر الشعب، يوم 24 يوليو 2025 عقد المنتدى الاستثماري السوري – السعودي، كأول فعالية من هذا النوع منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من عقد. الحدث، الذي جمع أكثر من 100 شركة سعودية و20 جهة حكومية برئاسة وزير الاستثمار خالد الفالح، وتم عقد اتفاقات تتجاوز قيمتها 13 مليار دولار. وشهد توقيع 47 مذكرة في مجالات الطاقة، الصناعة، البنية التحتية، التطوير العقاري، والتقنيات المالية. وإنشاء أكثر من 3 مصانع جديدة للإسمنت، وتوقيع مذكرات بين وزارة الاتصالات السورية وعدد من كبرى شركات الاتصالات السعودية، منها شركتا “إس تي سي” و”عِلم”.
لكن ما جرى في دمشق لم يكن منتدى اقتصادياً فحسب، بل إعلان سياسي مقنّع، يتجاوز سياقات التطبيع بين الرياض ودمشق، ويضع اللبنة الأولى لتحول نوعي في مستقبل الحكم في سوريا.

السعودية، التي بقيت لسنوات تدعم المعارضة، ثم انسحبت من تفاصيل الملف السوري، تعود الآن بقوة، لكن ليس من باب الرصاص بل من باب رأس المال. وهي لا تفعل ذلك من دون تنسيق مع واشنطن، ولا من دون تفاهمات مع تل أبيب.
إن ما يجري هو إعادة هندسة النظام السوري على مقاسات اقليمية جديدة، وهذه الأموال هي ، ضمانات مبكرة” لمرحلة انتقالية مقنّعة، تُدار بعناية إقليمية ودولية. يجري من خلالها تثبيت أحمد الشرع، أو من يمثل خطه المقبول غربياً كواجهة توافقية.
المعادلة الجديدة لا تبني على أنقاض نظام الأسد، بل تتخطّاه كلياً، وتُعيد تموضع سوريا حول شخصية وظيفية بديلة، تعكس التوازنات الدولية والإقليمية، وتضمن ملامح “جمهورية ثانية” التي تُصاغ أدوات حكمها وفق المزاج الصهيوني- الأميركي، ولكن بضمانات مالية سعودية، تشتري الاستقرار وتغلف الهيمنة بلبوس التوافق والتهدئة.
المال السعودي لا يُضَخّ في سوريا بوصفه إنقاذاً اقتصادياً عشوائياً، بل يُوجَّه ضمن مخطط سياسي محسوب بدقة، يرتكز على هدف مركزي: هو إنهاء الهيمنة الإيرانية على القرار السوري، وقطع شرايين النفوذ الممتدة نحو حزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة.
هذا التدفق المالي الهائل، الذي يظهر في شكل استثمارات وتنمية وبنى تحتية، ليس بريئاً ولا محايداً، بل هو أداة لبناء بيئة سياسية جديدة، تُدار وفق رؤية سعودية–أميركية–إسرائيلية، تسعى إلى إعادة تشكيل الطبقة الحاكمة في سوريا، بما يضمن إخراج رموز النظام القديم والمعارضة المسلحة على حد سواء من المشهد، واستبدالهما بطبقة، تُدين بولائها للمحور الذي يمولها ويصوغ إطارها.

ثالثاً: اللقاء السوري – الإسرائيلي

ثم جاء ما لم يكن ممكناً حتى تخيله قبل أشهر: لقاء رسمي بين ممثلين عن حكومة الشرع وممثلين عن الكيان الإسرائيلي، برعاية أمريكية، في باريس.
لا نعلم بالضبط ما الذي قيل في ذلك اللقاء، لكنه كُشف بإرادة واضحة، رغم أنه لم يُعلن رسمياً. في السياسة، هذا النمط من التسريب المقصود للقاء يعني: “نريدكم أن تعلموا، دون أن نتحمل مسؤولية الإعلان” أي أن ما حدث ليس سراً، بل هو مرحلة من التمهيد السياسي لواقع جديد. لماذا التوقيت الآن؟
لأن إسرائيل تحتاج تطمينات أمنية في الجنوب السوري، خاصة مع تصاعد القلق من احتمالات الفوضى في السويداء ودرعا. ولأن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تدفع بمشروع سياسي بديل في دمشق من دون الحصول على “الفيتو الإسرائيلي الإيجابي”.
في هذا السياق، الملف الدرزي كان حاضراً في المحادثات. إسرائيل تدرك أن المسألة الدرزية هي إحدى المفاتيح الهامة في صياغة جنوب سوريا الجديد. وقد تكون هناك صفقة “صامتة” لبناء شكل من أشكال الحماية أو الحكم الذاتي للدروز، بضمانة دولية وإسرائيلية، تُقدَّم في مقابل تفكيك أي ولاء للمحور الإيراني، ومنع عسكرة الحدود.

لا يمكن قراءة هذه التحولات الثلاثة بمعزل عن بعضها. فهي ليست حوادث متزامنة، بل هي أوتارٌ تُضرب في انسجام ضمن أوركسترا واحدة تُعيد تأليف النشيد السوري الجديد. العملية الأمنية في الشمال هي تثبيت للنفوذ العسكري الغربي – التركي. والاستثمارات السعودية هي تمويل سياسي مموّه لبنية جديدة في دمشق. واللقاء مع إسرائيل هو مفتاح الاعتراف بالصيغة القادمة لسوريا ضمن معادلة الإقليم الجديد.

وسط هذا المشهد، يُقدَّم اسم أحمد الشرع مجرّد عنوان، او واجهة “تم نظيفها”، وتسويقها غربياً، وتداولها إعلامياً كوجه مدني. لكنّه ليس اللاعب الاساسي، بل هو اللافتة التي تُعلّق فوق المرحلة. أما مراكز التصميم الحقيقية، فهي موزعة بين واشنطن، والرياض، وتل أبيب، وربما أنقرة – بقدر ما تلتزم بضبط الشمال. ولكن السؤال الاهم من يكتب الدستور الجديد؟ ومن يحدد هوية الأجهزة؟ ومن يعيد هيكلة الجيش؟ ليسوا في دمشق.
المرحلة القادمة لن تُدار بشخص، بل بمنظومة ذات طابع “تقني- أمني- وظيفي”، تُعيد رسم سوريا بما يُناسب محيطها الجديد. المهم أن المشهد يتغيّر، والإحداثيات تُعاد برمجتها… والجنوب السوري من جبل العرب إلى درعا، هو ميزان المعادلة القادمة، لا حلب ولا إدلب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار